احتفى الكونغرس بنتنياهو المتهم بارتكاب جرائم حرب وبقيادة حرب إبادة ضد 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة، وتحول من هيئة تشريع إلى هيئة تصفيق تزدري القانون وابسط حقوق الإنسان، وتقدم لحرب نتنياهو الوحشية على قطاع غزة الغطاء السياسي والتشجيع المدعم بالمال والسلاح. عاد نتنياهو من واشنطن متحمسا لمواصلة الحرب ونشرها، وإرجاء صفقة الاتفاق مع «حماس»، بعد أن قدم شروطا إضافية، في الوقت الذي صعّد فيه حرب القتل والتدمير والتشريد في قطاع غزة. معظم التقديرات تقول، إن نتنياهو سيتفادى الوصول إلى اتفاق بانتظار نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية واحتمال فوز ترامب مرشحه المفضل الذي سيغدق على حكومته الدعم بلا قيد أو شرط.
استمرار الحرب أو توسعها وتحولها إلى حرب إقليمية، ستعمق محنة المواطنين في قطاع غزة، وتزيد الخناق حول أعناقهم، وتضاعف من خسائرهم، وفي الوقت نفسه تمكن دولة الاحتلال من صناعة المزيد من الوقائع الاستعمارية على ارض القطاع بما في ذلك تفكيك المجتمع بعد تدمير مؤسساته، وتهيئته للتهجير القسري والطوعي. فطالما استمر التدمير والتشريد واستمر رفض الحل السياسي الذي يربط قطاع غزة بالضفة الغربية في إطار حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، فإن خطر التهجير للخارج يبقى مطروحا على أجندة حكومة نتنياهو. ولا شك في أن حرب الإبادة والتدمير في قطاع غزة الوثيقة بحرب التصفية في الضفة الغربية، وبحرب التجويع والخنق، وبتهميش وعزل المؤسسة الرسمية الفلسطينية، وبفصل المجتمع عن مؤسساته الرسمية والمعارضة والمدنية، كل ذلك يندرج في مشروع حكومة نتنياهو لتصفية القضية الفلسطينية وضم ما تبقى من أراضي الشعب الفلسطيني.
المشروع الإسرائيلي مترابط الحلقات في الأقوال والأفعال، لكن قراءته الفلسطينية انتقائية، وتخضع لإسقاط رغبات، والفعل الفلسطيني السياسي والمقاوم مجزأ ومنفصل عن بعضه البعض. فقد اقتنع البعض بأن إقامة الدولة أصبحت في المتناول بالاستناد إلى وعود وتصريحات وخطابات دولية، والاعتقاد بأن ذلك سيتحقق دون الالتفات إلى أن ما يجري على الأرض هو عكس ذلك، ودون تفعيل العناصر التي من شأنها إسناد الحق الفلسطيني. وفي تقييم الحرب يقول كثيرون، إن العدو لم يحقق أهدافه وهو في طريقه إلى خسارة الحرب وما يعنيه ذلك من انتصار المقاومة، يقدم هذا دون شرح يقنع المواطنين بذلك، ودون تفسير ما يقوله العدو بأنه سيستمر في الحرب حتى يحقق أهدافه الكاملة.
تتساءل الكاتبة نعمة حسن، عمّ هي الأهداف التي لم يحققها العدو في غزة؟ وما هي الأهداف التي ننتظر أن تتحقق للمقاومة بعد انتهاء الحرب؟ لماذا نموت؟ تتعدد الإجابات عن هذه الأسئلة المهمة. يقول البعض، لم يستطع العدو القضاء على المقاومة، وهي تتفاوض على انسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة وإطلاق سراح الأسرى.. الإجابة العمومية غالبا ما تكون منقوصة، فآلة الحرب الإسرائيلية الضخمة والحديثة والمدعومة تسيطر على قطاع غزة عسكريا، وتواصل تدمير وتشريد وقتل المواطنين، وإعادة التدمير والتشريد والقتل اكثر من مرة لكنها تتعرض لعمليات مقاومة بطولية، ويتعرض أحيانا غلاف غزة لإطلاق صواريخ. هذا ينسجم مع القانون الذي يقول، طالما يوجد احتلال فإن مقاومته المنظمة والعفوية أمر مفروغ منه. ولكن لا تقاس الأمور بهذا المستوى وحده، فلا مناص من رؤية الأهداف التي يقوم العدو بتحقيقها، كهدف تحويل قطاع غزة إلى مكان غير صالح للحياة، توطئة لتهجير المواطنين، وهدف إعادة بناء سيطرة كولونيالية على القطاع عن قرب أو عن بعد، وهدف بناء سلطة جديدة تابعة بأجندة إسرائيلية.
المسألة الأهم هي شكل المواجهة، من المعروف أن الحرب بدأت بصيغة حرب مواجهة، أطلقت فيها كل أنواع الأسلحة الحديثة والثقيلة الإسرائيلية مقابل أسلحة متواضعة ومحدودة التأثير من فصائل المقاومة، واستمرت الحرب من طرف واحد كحرب شاملة تستخدم فيها كل أنواع الأسلحة، ورغم أن فصائل المقاومة تراجعت عن حرب المواجهة والتشكيلات الأقرب إلى جيش إلى مجموعات مقاومة وأفراد إلا أن إطلاق صواريخ، وعودة المقاومة وسلطة «حماس» إلى الأحياء والمخيمات التي تنسحب منها قوات الاحتلال يدفعان الأخيرة إلى إعادة تدمير المكان وارتكاب مجازر وتهجير سكانه وفي وضع كهذا يكون الخاسر الأكبر هم المواطنون. إن إثبات حضور المقاومة والسلطة لا ينبغي أن يكون بثمن باهظ الكلفة يدفعه المواطنون. لا ضرورة لإطلاق قذائف وصواريخ من أماكن سكانية، ولا ضرورة لعودة سلطة «حماس» وتأكيد وجودها العلني. بالعكس، ثمة ضرورة لتنظيم لجان شعبية بوجوه جديدة ومستقلة لمساعدة المواطنين على البقاء والاستقرار في المكان وهو عكس ما يريده الاحتلال، لجان تشكل جسرا لدخول وعمل المنظمات الدولية في مجال الدعم اللوجستي والإنساني والطبي.
الحفاظ على المجتمع من التفكك والتبعثر والعمل بكل ما يمكن من اجل سلامته أو تقليل خسائره ومعاناته، هو هدف أساسي للمقاومة في شروط حرب الإبادة، وهذا يستدعي مواءمة أعمال المقاومة مع هذا الهدف. لا معنى لصمود المقاومة دون صمود الناس والعمل المثابر من أجل ذلك بما في ذلك نزع الذرائع التي يستخدمها المعتدون في حرب الإبادة. ثمة فرق بين خسائر تلحق بالسواد الأعظم من المواطنين باعتبار ذلك أمرا طبيعيا في كل حرب ولا مفر منه، ولا يؤخذ بالحسبان أثناء الدخول في معركة ووقت احتدامها، ومقارنة ذلك بخسائر شعوب أخرى في أزمان مختلفة، وبين خسائر تلحق بالمدنيين وهم مدرجون في استراتيجية المقاومة كعامل أساسي في المشاركة والحماية ومعالجة الأضرار التي قد تلحق بهم ما استطاعت المقاومة إلى ذلك سبيلا. للأسف، لا يوجد اكتراث بآلام ومعاناة المواطنين في الخطاب السياسي والإعلامي للمقاومة، ومن المفارقة أن تحتل مخاطبة اسر المحتجزين الإسرائيليين والمجتمع الإسرائيلي حيزا في خطاب المقاومة وهذا موقف إيجابي، ولا يحتل المجتمع المنكوب حيزا مماثلا في الخطاب ذاته، وهذا موقف سلبي. القول، إن الأثمان التي يدفعها الشعب هي مهر للحرية، والصمود الأسطوري للمقاومة أمام أعتى القوى، استنتاجات منقوصة ووحيدة الجانب بدون الناس. هذا يعكس خللا في الرؤية والاستراتيجية، يعكس التعامل مع الشعب كمتفرج ودافع أثمان بلا حقوق إنسانية ومدنية ودون أن يكون شريكا، ودون أن يعرف إلى أين يسير، ولماذا يموت، ودون أن يكون مرجعية. إن ثنائية، إما مع العدو وإما مع المقاومة، شكل من أشكال مصادرة حق المواطن في سؤال المقاومة عن سياساتها وتكتيكها ومسؤوليتها عن المواطنين، ومصادرة الحق في الدفاع عن مجتمع يتعرض للإبادة بدون مساءلة العامل الذاتي. من المفارقة أن مجتمع دولة الاحتلال يواصل نقد حكومته ومؤسسته العسكرية بصيغة حراكات شعبية منظمة تضم عشرات واحيانا مئات الآلاف يطالبونها بإبرام صفقة التبادل من أجل إنقاذ اقل من 50 أسيرا ومحتجزا إسرائيليا بثمن وقف الحرب والانسحاب من قطاع غزة. مقابل غياب مبادرات فلسطينية رسمية وشعبية ومعارضة لإنقاذ 2.3 مليون من خطر الإبادة. إنها ثقافة الإقصاء وعدم الاكتراث بمصير البشر.