بعد ما يقرب من ثلاث سنوات مرت منذ بدء العداء السياسي المكثف في أعقاب الغارة الإسرائيلية على مافي مرمرة -السفينة التي كانت تحمل ناشطين دوليين يحاولون كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة- اتفقت تركيا وإسرائيل مؤخراً على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما. وفي اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، اعتذر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن مقتل تسعة مواطنين أتراك على أيدي القوات الإسرائيلية، ووافق على دفع تعويضات. وفي المقابل، وافق أردوغان على إعادة تطبيع العلاقات بين البلدين وإسقاط الملاحقات القضائية ضد الضباط الإسرائيليين المتورطين في الغارة على الأسطول. وكانت تركيا قد طالبت إسرائيل في وقت سابق، بالإضافة إلى الاعتذار ودفع تعويضات، برفع الحصار عن قطاع غزة. ومن أجل التغلب على هذا الشرط الأخير -والشائك- أكد نتنياهو أن إسرائيل قد خففت مؤخراً من القيود المفروضة على دخول السلع المدنية إلى غزة، ووافق على العمل مع تركيا على تحسين الوضع الإنساني هناك. وما تزال تفاصيل الترتيبات في حاجة إلى العمل عليها، لكن البلدين يبدوان وأنهما يمضيان جيداً نحو استئناف التعاون في عدد من المجالات.
كان واضحاً منذ بعض الوقت أن إسرائيل مستعدة لتقديم اعتذار لتركيا، لكن الأمر الأقل وضوحاً كان مدى استعداد تركيا للقبول بذلك. والآن، بعد أن انتهى موسم الانتخابات في إسرائيل، لم يعد لدى نتنياهو ما يدعوه للقلق من الانتقادات التي ربما يوجهها القوميون لإصلاح العلاقات مع تركيا، كما أزال الاستبعاد المؤقت لوزير الخارجية السابق أفيغدور ليبرمان من الحكومة أكبر عقبة أمام المصالحة على الجانب الإسرائيلي. لكن السياسة في تركيا قصة مختلفة. فقد جعلت القضية الفلسطينية من إسرائيل دولة لا تحظى بأي شعبية هناك، وكان الخلاف بين البلدين قيّماً من الناحية السياسية لأردوغان، الذي كان يستطيع تفجير مسألة إسرائيل في أي وقت يريد فيه صرف الانتباه بعيداً عن القضايا الداخلية الحساسة. وفي شهر شباط (فبراير) الماضي، على سبيل المثال، كانت تهيمن على عناوين الصحف التركية أخبار مفاوضات الحكومة مع عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني الانفصالي (PKK). وعندما وصف أردوغان الصهيونية علناً بأنها جريمة ضد الإنسانية، طرد قصة المفاوضات مباشرة من الصفحات الأولى.
ونظراً لهذه الفوائد السياسية الداخلية، كان لدى أنقرة القليل من الأسباب للتصالح مع إسرائيل حتى الآن. ومع ذلك، أشّرت أخبار الأسابيع الأخيرة على أن الوقت قد حان لتدرك تركيا أخيراً أن لديها ما تخسره أكثر مما تكسبه من إدارة ظهرها لإسرائيل. ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى أن تركيا تستطيع استخدام مساعدة إسرائيل في معالجة أكثر معضلات سياستها الخارجية إلحاحا؛ الحرب الأهلية السورية، وأعلى مكامن قلقها الاقتصادية؛ أمن الطاقة.
بالنسبة لأنقرة، كانت الأزمة السورية مشكلة كبيرة. فقد تكبدت تركيا خسارة في التجارة، واضطرت إلى الاعتماد على حلف شمال الأطلسي للحصول على صواريخ باتريوت للدفاع ضد التهديدات الموجهة لحدودها، وقبول ما يقل قليلاً عن نصف مليون لاجئ سوري. وقد وقعت مطالب أنقرة للأسد بالتنحي على آذان صماء، كما أن مطالباتها بتدخل حلف شمال الأطلسي في شكل فرض منطقة حظر للطيران ومنح الأسلحة الثقيلة للمتمردين السوريين قوبلت بالإهمال.
كل ذلك كان سوء طالع بالنسبة لقادة تركيا، لكن دخول الأسلحة الكيميائية السورية إلى المعادلة في الآونة الأخيرة هو الذي غير الحسابات فعلاً في تركيا، وأصبحت البلاد تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى معلومات استخبارية أفضل وإلى أن يضع حلفاؤها حداً للحرب الأهلية، أو أن يمنعوا امتدادها على الأقل. ولا تستطيع تركيا أن تتحمل احتمال استخدام أسلحة كيميائية في أي مكان بالقرب من حدودها مع سورية، وكلما ازداد أمد القتال، زادت فرص توجيه ضربة بالأسلحة الكيميائية. وتمتلك إسرائيل، ببساطة، معلومات استخبارية عن التطورات الإقليمية أفضل مما تمتلك تركيا، ويمكن لتركيا أن تستخدم هذه المساعدة لرصد مخازن أسلحة الأسد وتحركات القوات على كلا الجانبين. وبالإضافة إلى ذلك، وفي حين ظلت الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي الأخرى مترددة في دعم المتمردين في سورية بأي طريقة مجدية، فإن لدى إسرائيل حافز أكبر للتأكد من أن تسود الجماعات السنية المعتدلة على العناصر الجهادية الأكثر تطرفاً في المعارضة. وبينما يزداد الوضع في سورية سخونة، ستكون كل من تركيا وإسرائيل شاكرتين لإمكانية التحدث والتنسيق مع بعضهما بعضاً.
ومن المجالات الأخرى التي تحتاج فيها تركيا إلى مساعدة إسرائيل مجال الطاقة. فقد جاء العجز في الحساب الجاري في تركيا، الذي بلغ 48.8 مليار دولار في العام 2012، في مجمله تقريباً نتيجة لاعتماد البلاد على النفط والواردات من الغاز الطبيعي؛ إذ لا تمتلك تركيا مواردها الطبيعية الخاصة. وعلاوة على ذلك، تدفع تركيا المال بشق الأنفس للغاز الطبيعي الروسي والإيراني على حد سواء، بسبب عقود السعر المرهقة.
وقد تحدثت في وقت سابق من الشهر الماضي مع عدد من الناس في تركيا -وزراء في الحكومة وسياسيين معارضين ومن كبار رجال الأعمال، وقادة المجموعات التجارية- والذين ذكروا جميعاً احتياجات تركيا المتنامية من الطاقة، وأعربوا عن أسفهم لاعتماد البلاد المفرط على الغاز الطبيعي الروسي والإيراني. وفي الأثناء، اكتشفت إسرائيل لتوها حوضين رئيسيين للغاز الطبيعي، حقول تمار ولفياثان، قبالة سواحلها في شرق البحر الأبيض المتوسط. وبما أنه ليس لدى تركيا أي أمل في تسوية العلاقات مع قبرص؛ عدوها القديم الذي كان المستفيد الرئيسي الآخر من طفرة الغاز في البحر الأبيض المتوسط، فإن من المرجح أن تتحول إلى إسرائيل باعتبارها مزوداً للغاز الطبيعي. ومع تباطؤ النمو الاقتصادي في تركيا، فإن إمكانات إسرائيل كشريك تجعل المصالحة الآن أكثر جاذبية من أي وقت في السنوات الأخيرة.
وثمة عوامل أخرى أيضا جعلت من هذه الفترة توقيتاً مثالياً لقبول تركيا الاعتذار الإسرائيلي. كبداية، سمح القيام بذلك خلال زيارة الرئيس باراك أوباما إلى المنطقة لأردوغان بمنح الرئيس الأميركي نصراً سياسياً. وفي الوقت نفسه، يستطيع أردوغان الادعاء بأنه جعل إسرائيل تركع على ركبتيها -تماماً في الوقت الذي كان فيه القوميون الأتراك يستعدون لانتقاده على التفاوض مع أوجلان وانتهاج سياسة أكثر ليونة مع الأكراد الأتراك. وهناك شريحة كبيرة من الشعب التركي الذين ما يزالون ينكرون أن هناك مشكلة كردية، ويرون أي جهد تبذله الحكومة باتجاه تخفيف حدة التوتر على أنه استسلام للإرهابيين. وبعد خطاب أوجلان الذي ألقاه مؤخراً، والذي أشر على انفصال حقيقي عن الماضي عن طريق تحويل نضال حزب العمال الكردستاني ضد تركيا إلى صراع سياسي بدلاً من الكفاح المسلح، أصبح أردوغان يمتلك الآن كلاً من المجال السياسي لاستئناف العلاقات مع إسرائيل، والقدرة على تحويل التقارب مع إسرائيل وعرضه على أنه انتصار قومي، رضخت فيه إسرائيل للمطالب التركية.
كان للشجار مع إسرائيل فوائده بالنسبة لأردوغان. ولكن، مع العديد من التحديات التي تواجه تركيا، ومع ضغط أوباما على كلا الجانبين من أجل التصالح، أصبح الوقت مناسباً أخيراً للقيام بذلك. وللمرة الأولى منذ رفعت سفينة مافي مرمرة أشرعتها، أصبحت المكاسب السياسية الاقتصادية والخارجية التي ستحققها تركيا من إصلاح الأمور مع إسرائيل تفوق بكثير الفوائد السياسية الداخلية المتحققة من البقاء بعيداً عنها. في بعض الأحيان، يكون الصديق الموثوق أفضل من عدو موثوق.
(فورين أفيرز) ترجمة: علاء الدين أبو زينة– الغد الاردنية.
*مدير برامج في معهد إسرائيل ومرشح لنيل درجة الدكتوراه من جامعة جورج تاون في شؤون الحكم.
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
Why Israel and Turkey Got Back Together: The Coming Cooperation on Syria and Energy