حيث نحن لانزال نراوح بقعة جغرافية واحدة تتقلص ولا تزيد، نسبح في بعد زمني لا علاقة له بالعلم ولا المنطق ولا العقل لكن له علاقة بالعاطفة والاحساس والمشاعر.. وربما هذه أيضا تبلدت في مرحلة ما لكن الشعور بالألم المكبوت في قلوبنا والحزن العميق لم يعد يمكن توصيفه في كلمات عادية وبات السؤال الدائم سؤال استنزافي واجترار لقهر آخر وبعد ورؤية أخرى…!!
لماذا علينا أن نتعايش مع موتنا.؟! نحن وبقايا الروح التي لازالت تجذبك لجذور الأرض رغما عنك فتلتصق بها حتى تسحب ما تبقى من روحك وتترك إلى جانبك وردة حمراء تسيل من دماءك.. أنت مجبر على البحث في القتل المفجع لجزء آخر منك تحدق في ذاك الطفل الممدد على الأرض الرملية كان قبل لحظات يتنفس، يحلم، يركض، يغفو، يعيش…!! لكنه أصبح بعد لحظة الاقتناص وردة حمراء ملطخة بتراب الأرض…!
الغضب الذي بداخلنا يمزقنا ويلقي بنا بدروب المتاهة فلم نعد نعرف أنفسنا؟!! ما الأكثر سوءا الآن أن تدرك كل ما حولك من مؤامرات وتذوب في تيه التحليل، أم أن تتجاهل كل ذلك وتدرك أنك أصبحت لا تتجاوز قطعة شطرنج بأيدي الآخرين محليين وحاملي ألوان وشعارات مثيرة لمزيد من الغضب والقهر إذ تجعلك تكتشف أن السنوات مرت وأنت مصلوب على هذه الأرض لا علاقة لذلك بالصمود أو النظرية الوطنية الكبيرة جدا…!! لا علاقة لشيء بشيء تعاني وحدك والآخرون بالكاد يعبرون عن وجعهم وقهرهم لأجلك، وأنت تبتسم لهم هذا أكثر ما يمكن أن يحدث…! يا لسخافة الحقيقة..
أنت ذاتك لم تعد في تضامن من ذاتك الأخرى، فإحداها تنسل منك لتفجر غضبها في محاولة لاستنهاض الحياة أو خلق التغيير وذاتك الأخرى تصمت وتضغط على الجرح لأنها تدرك أن آخرون يحركون جسدك العلوي فقط، فيما تغربلك الأرض وتزيد من قيودها على قدميك فلم تعد تميزك عن التراب. لون واحد قحط واحد لا زرع لا نبت في الأفق…!!
ما مصير غضبك وقهرك وثورتك؟! ما مصير كل من في السجن الكبير؟! حتى مساحات التفاكر بدأت تتقلص فمصيرها لا يغدو أن يتوه من جديد من تفاصيل الوجع والقهر.. سقط أحمد وحيدا لا أحد قربه…! إنه يتطلع بفضول صوب أرض تحجبه عنها أسلاك وأبراج وكاميرات ورصاصات تطير في الجوار.. فضول طفل لم يتجاوز عمره الثالثة عشر لا يعرف غير حدود غزة قرأ كثيرا عن الأرض وأحب صورتها وكتب على جدار بيتهم بقطعة فحم مهملة.. الأرض لنا.. سمع كثيرا عن بلد اسمها فلسطين عشقها مع حليب أمه، لكنه لم يبارح أسوار مدرسته.. لقد ضم حلمه وذهب ووقف بعيدا عله يشم زهر الأقحوان.. عله يرى وجه هؤلاء الجنود ويسألهم لما تغتالون حلمنا الصغير.. لقد فرد حلمه للريح وهمس للحدود، لم يدرك أنه بعد ثواني قليلة سيكون مبعثرا بدمه مسفوكا بحلمه الذي اخترق لحمه فبات جسدا بلا روح…
لقد حلق بحلمه وجسده الآخر، لقد سقط كوردة فقدت رحيقها، وبات جزء من الأرض التي غبرت قدميه الصغيرتين…!! لقد اقتنص حلمه عن كره.. لم يرى الجندي الذي اقتنصه ربما سيثأر في حياة أخرى لروحه لكنه لم يعد يعرف كيف يقول لهذا العالم أنه.. فقط أراد أن يرى ما خلف الحدود خارج أسوار سجن غزة الذي ولد فيه وتجاوزت سنوات عمره الثلاثة عشر في سجن وحصار وثلاثة حروب… لقد أراد أن يرجع ليقول إنه اكتفى من كل ذلك…!!
ولكن يا أحمد نحن من بقينا.. نتساءل بعدك؟؟!! لماذا علينا أن نتعايش مع موتنا؟؟ وكيف يمكن أن نتعايش مع موتنا؟!! لقد أوجعتنا يا أحمد كما ودعتنا الكثير من القلوب التي انطفأت قبل أوانها ولا زلنا نتجرع عذاب الفقدان والقهر والألم…!