لماذا قصف المدنيين؟

2014/08/11
Updated 2014/08/11 at 10:03 صباحًا

 67x4k040

نيويورك- عندما خاضت إسرائيل حربها في غزة في المرة قبل الماضية في العام 2009، عَقَد أفيغدور ليبرمان وزير خارجية إسرائيل آنذاك مقارنة بين ذلك الصراع وبين حرب أميركا ضد اليابان، وخلص إلى أن إسرائيل لا حاجة بها إلى التورط في غزو بري باهظ التكلفة؛ ما دام بوسعها قصف العدو وإخضاعه من الجو.
لم تكن تلك المقارنة مخطئة بالكامل، رغم أنها شائنة في ظاهرها. وهي ليست مخطئة اليوم أيضاً. ذلك أن الاستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع غزة الخاضعة لسيطرة حماس كانت دوماً وما تزال تقوم على إحداث أكبر قدر من الضرر من الجو. ولكن، وحتى إذا قبلنا بأن لدى إسرائيل أسبابا مشروعة لإغلاق الأنفاق التي تتسلل عبرها قوات خاصة فلسطينية إلى إسرائيل، فإن هذا لا يفسر السبب في أنه كان من الضروري قصف المدارس، ومحطات توليد الطاقة، والمستشفيات والمساجد، والمناطق المدنية المكتظة بالسكان.
يزعم التفسير الرسمي أن الصواريخ الفلسطينية مخبأة في مناطق مدنية. وقد يكون هذا صحيحاً. ولكن من الواضح أيضاً أن قادة إسرائيل يعتقدون أنه سيمكنهم من خلال سحق غزة وشعبها بالقنابل تدمير معنويات الفلسطينيين. وهم يعتقدون بأن الفلسطينيين، عند نقطة ما، سوف يضيقون ذرعاً ويستسلمون -بل وربما ينقلبون على حكامهم.
هذا هو ما اصطُلِح على تسميته بـ”القصف الاستراتيجي”، أو في بعض الأحيان “قصف الرعب”، وهو أسلوب حربي مصمم من أجل كسر إرادة الشعب بتدمير “مراكزه الحيوية”. وكان أهم أنصار هذه الفكرة، التي طُرِحَت في عشرينيات القرن العشرين، هم الإيطالي جوليو دويه، والأميركي وليام ميتشل، والإنجليزي هيو ترنشارد.
وقد استخدم البريطانيون هذا التكتيك في منتصف عشرينيات القرن العشرين في بلاد ما بين النهرين؛ حيث حاولوا كسر إرادة الثوار المناهضين للاستعمار من العراقيين والأكراد عن طريق محو قرى بأكملها من الجو، وأحياناً باستخدام قنابل معبأة بغاز الخردل. ثم كانت نقطة الذروة الدموية المخزية لاستخدام هذا النهج في شهر آب (أغسطس) من العام 1945، عندما استخدمت الولايات المتحدة قنبلتين ذريتين لمحو مدينتي هيروشيما وناغاساكي اليابانيتين من الوجود -ولعل هذا هو ما دار بخلد ليبرمان.
شهد التاريخ الحديث العديد من حالات القصف الاستراتيجي. فقد حاولت ألمانيا النازية كسر المعنويات البريطانية بشن هجوم خاطف على مناطق واسعة من لندن وبرمنجهام وكوفنتري، بين أماكن أخرى. وعندما عجز اليابانيون عن تركيع الصين تحت قيادة شيانج كاي شيك في ثلاثينيات القرن العشرين، جلبت قاصفات القنابل اليابانية الرعب إلى شنغهاي وتشونجتشينج وهانكو. وفي العام 1940، دَمَّر الألمان مركز روتردام.
منذ العام 1943 فصاعداً، استخدم آرثر هاريس (الملقب بقاذف القنابل) وربيب ترنشارد، موجة تلو الأخرى من هجمات سلاح الجو الملكي البريطاني من أجل هدم كل مدينة في ألمانيا تقريباً. وكان سلاح الجو الملكي يقصف الألمان ليلاً، في حين كان سلاح الجو الأميركي يقصفهم نهاراً.
لكن الأسوأ على الإطلاق كان من نصيب اليابان. فقبل مدة طويلة من تدمير هيروشيما وناغاساكي، تمكن سلاح الجو الأميركي بقيادة الجنرال كيرتس ليماي من إحراق كل المدن اليابانية الكبرى وتحويلها إلى جمر مشتعل باستخدام القنابل الحارقة.
يشكل القصف الاستراتيجي أحد تطبيقات مفهوم “الحرب الشاملة”، والذي يعتبر كل المدنيين مقاتلين، أي أنهم يكونون بالتالي أهدافاً مشروعة. وفي العام 1965، عندما أثبت الفيتناميون الشماليون أنهم أعداء يتسمون بالصلابة والعناد، هدَّد ليماي بقصفهم “حتى إعادتهم إلى العصر الحجري”. لكن المشكلة في القصف الاستراتيجي هي أنه لم ينجح من قبل قَط في تحقيق الغرض منه، مع الاستثناء المحتمل لمدينة روتردام (ولو أن هولندا كانت بحلول ذلك الوقت قد هُزِمَت بالفعل). فبدلاً من كسر الروح المعنوية الشعبية في لندن أو برلين أو طوكيو أو هانوي، كان القصف الاستراتيجي يعمل عادة على تعزيزها. وفي مواجهة تهديد مميت مشترك، يلتف المدنيون حول الزعماء الوحيدين القادرين على القيام بأي شيء لحمايتهم، حتى لو كان هؤلاء الزعماء مكروهين على نطاق واسع.
وهكذا، خاض الألمان حرباً متواصلة إلى أن قهرتهم القوة المشتركة من جيوش الحلفاء الغازية في العام 1945. وفي نهاية المطاف، استسلم اليابانيون لأنهم كانوا يخشون غزواً من الاتحاد السوفييتي. ولم يستسلم الفيتناميون الشماليون قط. ولن يكف الفلسطينيون، سواء كانت حماس تحكمهم أم لا، عن قتال الإسرائيليين، وخاصة في غزة، حيث لم يترك لهم الدمار الكلي الشامل أي شيء يخسرونه.
لماذا إذن تصر الحكومات على استخدام هذه الاستراتيجية القاسية غير الفعّالة؟ أظن أن الشبق المحض للدماء -متعة إلحاق الأذى والألم بعدو مكروه- ربما كان وراء ذلك الإصرار. ولعل هذا هو ما دفع هاريس إلى قصف المدن الألمانية مراراً وتكراراً، حتى عندما لم يعد للقصف أي غرض عسكري يمكن تصوره.
لكن من غير الممكن أن تكون العاطفة العنيفة والرغبة في الانتقام هما السببان الوحيدان، أو ربما حتى السببان الرئيسان وراء هذا. ولعل التفسير الأكثر قبولاً هو أن القصف الاستراتيجي يستهدف الروح المعنوية حقاً، وإنما ليس الروح المعنوية للعدو. إنه يستهدف الروح المعنوية على الجبهة الداخلية التي تحتاج إلى التعزيز حتماً، عندما يبدو الأمر وكأن كل الأساليب الأخرى محكوم عليها بالفشل. وقد قرر ونستون تشرشل إطلاق العنان لقاذفاته لكي تحصد أرواح المدنيين الألمان عندما كان انتصار الحلفاء ما يزال بعيد المنال. وكان في احتياج إلى بناء الروح المعنوية البريطانية باستعراض القوة ضد العدو الذي كان في ذلك الحين قد أمضى سنوات عديدة في قصف المملكة المتحدة.
الميزة الأخرى المترتبة على حملات القصف، والتي أطلقها بلهفة شديدة خلال الحرب العالمية الثانية رجال كانت تطاردهم ذكريات سفك الدماء من الحرب العالمية الأولى، كانت أن مهاجمة العدو بالاستعانة بها لا تتطلب خسارة أعداد كبيرة من قواتك. لا شك أن العديد من طياري قاذفات القنابل البريطانية ماتوا، ولكن الغزو البري كان ليسفر عن مقتل أعداد أكبر كثيراً من الجنود. والواقع أنه في ظل التفوق في الجو، كما كانت الحال في بلاد ما بين النهرين في عشرينيات القرن العشرين أو اليابان في العام 1945، كان من الممكن تنفيذ حملات القتل الجماعي بلا تكاليف على الإطلاق تقريبا.
ولكن هناك تفسيراً آخر، يرجع أيضاً إلى العشرينيات. إذ كان الغرض من القصف، على حد تعبير تشرشل، حماية إمبراطورية “بثمن بخس”. فمن الممكن وقف المتمردين بقتل العدد الكافي من الناس من ارتفاعات كبيرة. ويرجع استخدام الرئيس الأميركي باراك أوباما للطائرات بدون طيار في أفغانستان وباكستان واليمن إلى المبدأ نفسه.
ولكن مثل هذه الانتصارات تكون دوماً باهظة الثمن، لأن كل قتل للمدنيين يخلق متمردين جددا يثورون مرة أخرى عاجلاً أو آجلا. وإذا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يدرك هذه الحقيقة، فهو أحمق. أما إذا كان يدركها فهو إنسان هازئ مستهتر تخلى عن أي فكرة لها علاقة بالسلام الدائم. ومن الصعب أن نجزم أي الأمرين أشد سوءا.

الغد الأردنية

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً