حينما بدأ جون كيري أول جولة خارجية له كوزير للخارجية، شرع المراقبون الأجانب في الإشارة إلى أن إدارة أوباما، ربما -وربما فقط، ستجعل من مسألة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أولوية في نهاية المطاف.
وعندما وصل كيري إلى بريطانيا، حيته صحيفة الديلي تلغراف بمقال يزعم بأنه “مسكون بهاجس” السلام في الشرق الأوسط. وفي اليوم الذي سبق ذلك، وفي صحيفة هآرتس، نقل كيمي شاليف، أحد ألمع المحللين للعلاقات الأميركية-الإسرائيلية، عن مصدر يدعي بأن كيري “عازم حد الهوس” على التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين. وأضاف المصدر: “إنه يرى ذلك بمثابة المهمة المقدسة في حياته”. ومن جهة أخرى، ما تزال حركة “جيه ستريت” منتشية في أعقاب اجتماع كان قد عقد في البيت الأبيض يوم الجمعة الذي سبق حفل التنصيب، والذي وعد فيه نائب مستشار الأمن القومي بن رودس واثنان من مسؤولي إدارة أوباما نحو 20 من اليهود الأميركيين الحمائميين بأن مسألة إسرائيل-فلسطين ستكون أولوية في الفترة الرئاسية الثانية لأوباما.
وكنت قد سمعت همهمات مماثلة عن عاطفة كيري المتدفقة تجاه كل الأشياء في منطقة شرق المتوسط. وقد أعلن أحد المراقبين وثيقي الصلة بالديمقراطيين: “إنه مهووس. تحدث إلى العاملين معه، وسيقولون لك إنك إذا ما أردت الحصول على اهتمامه، فما عليك سوى أن تقول “إسرائيل وفلسطين” فقط، وسترى كيف يشرق وجهه”. ويشير المراقب نفسه إلى أن كيري، خلافاً لهيلاري كلينتون التي لم تشأ “خلق أي خلافات كبيرة” لأن “عينها كانت على (انتخابات) العام 2016″، يظل أكثر تحرراً من المخاوف السياسية الداخلية.
لو أن المسائل كذلك فقط! لكن المشكلة في نظرية “كيري صانع السلام” هي أنها تغالي في تقدير كل من تأثيره على الرئيس أوباما، واستعداد أوباما نفسه للتأثير على الإسرائيليين والفلسطينيين. ومثل معظم الرؤساء، يشير أوباما بشكل عام وفي العلن إلى المبادرات السياسية التي يمكن أن يضطلع بها. وخلال الحملة 2012، تحدث كثيراً عن الميزانية، والهجرة، وإيران. وقد استمر في الحديث عن هذه القضايا منذ إعادة انتخابه، إلى جانب مسألة السيطرة على انتشار السلاح في أميركا. لكن ما لم يتحدث عنه كان مسألة السلام الإسرائيلي الفلسطيني. وهو لم يأت على ذكرها في المؤتمر الوطني الديمقراطي في الصيف الماضي، ولا خلال المناظرات الرئاسية، ولا عشية الانتخابات، أو أثناء خطاب تنصيبه الثاني.
وقد حظيت إسرائيل فعلاً بالذكر مرة واحدة في خطاب أوباما مؤخراً عن حالة الاتحاد، لكن تم تجاهل الفلسطينيين. وبدلاً من ذلك كله، ذكر أوباما إيران مرة وسورية مرتين. وفي العام 2008 كان برنامج الديمقراطيين قد وعد بـ”الالتزام الشخصي لرئيس الولايات المتحدة… بالمساعدة في تأمين التوصل إلى تسوية دائمة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني”. وبحلول العام 2012، كان ذلك التعهد قد ذهب أدراج الرياح.
ليس ثمة غموض في عدم تركيز الرئيس على مسألة إسرائيل وفلسطين. فمن جهة، شقت قضايا إقليمية أخرى طريقها عنوة إلى جدول أعماله. ففي العام 2008، بدت مصر وسورية مستقرتين، واليوم أصبحتا تعيشان في ظلال متفاوتة من الفوضى. وأصبحت إيران الآن أقرب إلى القنبلة النووية. وعلاوة على ذلك، جعلت أربع سنوات من تدهور الأوضاع على الأرض من الأصعب علينا أن نتخيل أوباما وهو يتوسط في إبرام اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين. وكان أوباما قد تولى منصبه في العام 2009 بعد بضعة أشهر فقط من محادثات أولمرت وعباس، التي كانت قد جلبت إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية أقرب للتوصل إلى اتفاق من أي وقت مضى. ومما لا شك فيه أن انتصار بنيامين نتنياهو سرعان ما صلّب موقف الحكومة الإسرائيلية، كما أن حرب العام 2009 على غزة -بالإضافة إلى تسريبات الجزيرة عن تنازلات عباس السرية- أضعفت يد الزعيم الفلسطيني، مما جعل من الأصعب عليه تقديم تنازلات. في العام 2009، كان ما يزال من الأسهل أن نتصور أوباما أكثر قدرة على استدراج قرار مما هو الحال اليوم، حيث أصبحت حماس أكثر تمكيناً، وأميركا أضعف إقليمياً، والمستوطنات الإسرائيلية أكثر تخندقاً من ذي قبل.
يقترح البعض أن مفاجأة يائير لبيد التي ظهرت في انتخابات الشهر الماضي تعني أن الحكومة الإسرائيلية المقبلة سوف تدعم قيام دولة فلسطينية على شيء قريب من حدود العام 1967، وهو شيء كان نتنياهو قد رفضه بوضوح في العام 2011. لكنني أشك في ذلك. فرغم أنه أكثر صخباً من نتنياهو في دعمه لمحادثات السلام وقيام نوع من الدولة الفلسطينية، خرج لبيد عن مساره برفضه الشروط نفسها التي ستكون ضرورية لجعل مثل هذه الدولة تمر. وكان قد أطلق حملته في مستوطنة أرييل؛ المستوطنة نفسها التي برهنت -بسبب توغلها في الضفة الغربية، وبحيث تضعف بشكل خطير إمكانية التواصل الوظيفي لدولة فلسطينية- أنها الأكثر إثارة للجدل في المفاوضات التي جرت بين أولمرت وعباس.
وبعد عشرة أيام، أصر لبيد على أنه لا يمكن أبداً أن يدعم إقامة عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية. وقد أوضح ذلك بالقول: “إذا أدرك الفلسطينيون أنها لن تكون لهم دولة إلا إذا تخلوا عن القدس، فإنهم سوف يتراجعون عن هذا المطلب”. وهو تصريح يتعارض فعلياً -كما لاحظ زميلي إميلي هاوزر محرر زاوية “أوبن زيون”- مع كل ما عرفناه طوال أكثر من عقد من المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية. وفي هذا الشهر، قال لبيد لزوار من المسؤولين اليهود الأميركيين إن أولمرت كان قد ذهب بعيداً جداً بموافقته على قيام دولة فلسطينية في القدس الشرقية.
لكن المعلقين الأذكياء، مثل ج.ج. غولدبرغ، تكهنوا بأن كل هذا ربما يكون لغاية الاستعراض فقط. ولاحظوا أنه رغم انتماء خطاب لبيد إلى يمين الوسط، فقد ضمت قائمته الانتخابية مجموعة من الحمائم مثل رئيس جهاز الشين بيت السابق ياكوف بيري، المتمتع بشهرة “حراس البوابة”. لكن المشكلة في هذه النظرية هي أن لبيد شبك ذراعه منذ نجاحه غير المتوقع في الانتخابات التي جرت الشهر الماضي مع زعيم حزب البيت اليهودي نفتالي بينيت، وهو رجل يعارض قيام دولة فلسطينية بشكل أكثر قوة من دعم لبيد لقيام مثل هذه الدولة.
لو أراد لبيد إبرام اتفاق مع الفلسطينيين حقاً، لكان قد حاول الانضمام إلى ائتلاف حكومي مع الأحزاب الدينية المتشددة التي تهتم بالحفاظ على إعفاءات الجيش لطلاب مدارسها الدينية أكثر من اهتمامها بالحفاظ على المستوطنات. لكنه بدلاً من ذلك، فعل العكس تماماً، جاعلاً مما لا يدع مجالاً للشك أنه يهتم بتغيير علاقات إسرائيل مع المتشددين الدينيين أكثر مما يُعنى بتغيير علاقتها مع الفلسطينيين. ووفقاً لنائب لبيد، الحاخام شاي بيرون، فإن “شراكة لابيد-بينيت حقيقية، عميقة، وغير سياسية”. فكيف يمكن أن يكون ذلك عندما يدعم لبيد حل الدولتين ويرفض بينيت مثل هذا الحل؟ كما أوضح نوام شيزاف: بما أن لبيد يعتقد بأن محادثات السلام مهمة لتلميع صورة إسرائيل الدولية، لكنه لا يعتقد بأنها سوف تذهب إلى أي مكان، فإن بينيت يمكن أن يقبل بمحادثات السلام على وجه التحديد لأنه لا يعتقد بأنها سوف تذهب إلى أي مكان أيضاً.
كان البعض قد فسر قرار البيت الأبيض إعلان رحلة أوباما إلى إسرائيل مباشرة عقب تنصيبه على أنه محاولة منه للضغط على نتنياهو من أجل تشكيل حكومة أكثر حمائمية. بل إن تسيبي ليفني، التي انضمت مؤخراً إلى ائتلاف نتنياهو كوزيرة للعدل مع بعض المسؤولية عن المفاوضات الفلسطينية، توقعت أنه “في آذار (مارس)، سوف يقدم لنا العالم خطة سلام”. لكن مسؤولي أوباما ينفون ذلك بشدة. وقال لي أحدهم إنه تم الإعلان عن الرحلة في وقت مبكر جداً، فقط لأن الإسرائيليين سربوا الأنباء عندما كان فريق تمهيد أميركي موجوداً هناك على الأرض.
أما فيما يتعلق بمحاولة التأثير على تشكيل الحكومة المقبلة في إسرائيل، فقال المسؤول: “إننا نرى أنه عملية إسرائيلية محلية… ونحن لا نريد أن نكون في وسطها”. وعندما سئل عما يأمل أوباما في تحقيقه من خلال زيارة الدولة اليهودية، وضع المسؤول مجموعة توقعات منخفضة إلى حد هزلي تقريباً: “لن أقول إن الهدف من الزيارة هو استئناف مفاوضات السلام. إن الغرض من الرحلة ليس وضع علامة، أو خلق جدول زمني، ولا هو تقديم أي إعلان عن أن الطرفين سيكونان قد اتفقا خلال “س” من الشهور على الاجتماع معاً. يجب على الناس أن لا يتطلعوا إلى أي مبادرات جديدة لمناقشتها”. إذا كان ذلك هو واقع الحال، فلكم أن تتوقعوا الأشياء العظيمة.
وإذن، لماذا يذهب أوباما إلى هناك من الأساس؟ السبب الأرجح هو أنه يريد أن يؤجل أي عمل عسكري إسرائيلي بحيث يشتري لنفسه بالتالي بعضاً من الوقت لبذل الجهود الدبلوماسية مع إيران؛ وهو يريد أن يجند مساعدة إسرائيل في المسعى لإنهاء الحرب الأهلية السورية؛ وهو يريد إنهاء الثرثرة الجمهورية عن عدم زيارته لإسرائيل. وقد أشارت رحلة كيري إلى هذا القدر بالضبط. فبعد أن أعلن في البداية أنه سيزور إسرائيل قبل أوباما، ألغى كيري الزيارة فجأة على أساس أنه لا يريد التدخل في المفاوضات الجارية لتشكيل الحكومة الائتلافية. وبدلاً من ذلك، شرع في رحلة، وصفتها صحيفة الواشنطن بوست بأنها “من المتوقع أن تهيمن عليها مناقشة الوضع في سورية”. وبالإضافة إلى محاولة الالتقاء بأعضاء من المعارضة السورية، خطط كيري لزيارة كل من تركيا، والمملكة العربية السعودية، دولة الإمارات العربية المتحدة، وقطر -وهي أربعة بلدان التي لها أهمية حاسمة، ليس فقط لأي مسعى أميركي بخصوص سورية، وإنما لأي مبادرة إيرانية أيضاً.
خلال رحلته إلى إسرائيل، سوف يلم أوباما بالضفة الغربية من أجل لقاء خاطف مع عباس. وعندما تغادر الكاميرات القاعة، أتصور الزعيم الفلسطيني ربما يقول له شيئاً من هذا القبيل:
“هل ترى المفارقة، سيدي الرئيس؟ لقد طلبتم منا أنتم وأسلافكم أن نخلق جهازاً أمنياً يكون من شأنه العمل مع إسرائيل لمنع انطلاق الإرهاب من الضفة الغربية. وقد فعلنا ذلك، وحتى قادة الأمن الإسرائيليون يقولون ذلك. لكن النتيجة هي أنه أصبح من السهل تجاهلنا. كيري يركز على الحرب في سورية. ونتنياهو على حربه المحتملة مع إيران. ويركز لبيد على حربه الثقافية مع المتشددين الدينيين. ولا أحد يركز علينا لأننا لا نتصرف على أننا في حالة حرب”.
“لكن أبناء شعبنا لاحظوا شيئاً: عندما تطلق حماس والجهاد الإسلامي الصواريخ من قطاع غزة، فإنهما تحصلان على الاهتمام. لا شك أن بعض هذا الاهتمام يأتي في شكل ضربات صاروخية إسرائيلية. لكنه عندما يتوقف إطلاق النار، تقوم إسرائيل بتخفيف القيود المفروضة على المزارعين والصيادين في غزة بهدوء. وينتهي الأمر بحماس وقد عززت موقفها في صفوف الفلسطينيين، وعبر العالم العربي. لا تفهموني خطأ، سيدي الرئيس. إنني لن أقود شعبي للعودة إلى العنف؛ وأنا أعتبر الانتفاضة الثانية كارثة تاريخية. لكن قبضتي على شعبي تفلت، وأنا لن أظل في هذا المنصب إلى الأبد. استمروا في تجاهلنا إذا أردتم. لكننا سوف نحوز انتباهكم مرة أخرى ذات يوم، وبطريقة كبيرة. وبحلول ذلك الوقت، كما أظن، سوف يكون انتباهكم قد جاء متأخراً جداً”.
الغد الأردنية.