تتصادم الأيدي التي تمتد إلى سورية. بعضها على سبيل المساعدة والدعم. والبعض الآخر بقصد الفوضى والتخريب، أي أقل فائدة للثورة وأكثر نفعاً للنظام، فيما تترقب إسرائيل الفرص لتفجر بعض ألغامها المزروعة سلفاً على خطوط الفصل في الجولان المحتل، وعلى أطرافه، شرقاً وغرباً وشمالاً.
وفي هذا الوقت تنتقل محنة سورية من مرحلة إلى مرحلة، ومن مدينة إلى مدينة، ومن مؤتمر إلى مؤتمر، ومن بيان إلى بيان، فيما الثوار يقاتلون على أرض مكشوفة تحت سماء يجوبها طيران النظام متعقباً طوابير النازحين إلى حيث ملاجئ للأطفال والعجز والجرحى، تاركين خلفهم الدمار والصراخ على من بقي تحت الأنقاض.
تمضي سورية نحو التشطير ضمن وحدة المصيبة: سورية الثورة، وسورية النظام. سورية الداخل، وسورية الخارج. سورية المقاومة والممانعة تحت جناح روسيا وإيران و «حزب الله». وسورية الجامعة العربية في القاهرة حيث استوحش وزير خارجية لبنان بجلوسه وحيداً فيها فطلب الاستئناس بحضور صديقه الوزير السوري وليد المعلم.
ثمّة قدر، غير الجغرافيا والتاريخ والنسب، جمع بين اللبنانيين والسوريين مدى أربعين سنة حتى اليوم. هو النظام الذي يحكم سورية، وكان يحكم لبنان أيضاً، ولكن بطريقة أفظع، ولم يزل له دور بعد.
خمس عشرة سنة من الحروب عاشها اللبنانيون وفقدوا خلالها الأهل والأحبة، والنخبة من القادة، وعشرات الآلاف من الضحايا الشهداء، وفي طليعتهم رموز من الإعلاميين والمثقفين والمبدعين، وفوقهم ركام وطن، ومؤسسات، واقتصاد وسياحة، وبقايا دولة وسيادة واستقلال.
اللبناني كان الأول، والوحيد بين العرب، الذي عايش حروب المنطقة كلها. وهو قد خاض حروبه المنفردة دفاعاً عن المقاومة الفلسطينية ومعها. وحتى اليوم لا يزال لبنان الجبهة العربية الوحيدة المستهدفة من إسرائيل، وعليه أن يبقى مستنفراً، ولا يحق له أن يستقرّ ويطمئن.
هذا القدر الجغرافي الذي وضع لبنان في موقع الهدف الدائم، وجعله الشهيد، المتعدد الروح كأنه من أسطورة طائر الفينيق، هو اليوم في موقع الشاهد على محنة الشعب السوري في جواره، وقد تمددت المحنة فدخلت في حياة اللبنانيين وصارت جزءاً من معاناتهم اليومية.
لا ينسى اللبنانيون، ولن ينسوا، كم خاب أملهم بالمجتمع الدولي الذي تركهم لمصيرهم في مواجهة آلة القتل والسحق. وها هو الشعب السوري يواجه المصير عينه، وإذ يلتفت إلى روسيا يجدها في المقلب الآخر.
روسيا في هذا الشهر هي رئيسة مجلس الأمن الدولي. لكنها لا تريد أن ترى كأس سورية أمامها على المنصة. ربما لأن اللون الأحمر يملأ هذه الكأس، لذلك فضلت روسيا أن تبعدها، ولو إلى حين. لا أحد يمكنه أن ينكر أن روسيا تستطيع، على الأقل، أن تحد من انفلاش اللون الأحمر على الأرض السورية. لكنها لا تزال تتردد، ولعلها تراهن على استمرار ولاية الأسد حتى نهايتها في العام المقبل.
روسيا دولة عظمى، ولها حسابات مصالح لا تقرها شرعة الأمم المتحدة، لكن هذه الشرعة لا تحمي حياة الشعوب التي يقتلها حكامها. لا بد من قرار يتخذه مجلس الأمن الدولي بالإجماع. وروسيا هي التي تمنع صدور هذا القرار، وحجّتها أنها تعارض تغيير النظام بالقوة. ومعنى ذلك أن الرئيس فلاديمير بوتين لا يؤيد نظاماً يأتي من خارج صناديق الاقتراع حيث تبدأ الديموقراطية.
لكن الرئيس بوتين الآتي من جهاز المخابرات في الحقبة الأخيرة من عصر الاتحاد السوفياتي يعرف أكثر من سواه عجائب الديموقراطية في أنظمة الحزب الواحد الأوحد والزعيم الواحد الأوحد، ولا بدّ أنه أوفر علماً وأكثر خبرة من سواه في ديموقراطية النظام السوري الذي يتجدد دورة بعد دورة منذ أربعين سنة، ودائماً بنسبة 99.99 في المئة.
ليست سورية الآن في حرب مع إسرائيل لتدعمها روسيا كما فعلت في كل الحروب العربية السابقة منذ خمسينات القرن الماضي.
ثم أن الجيش السوري ليس في حرب مع أعداء. ولا بدّ من أن الثوار مكرهون على مواجهة من يتصدى لهم بالأوامر العليا. فالجيش هو جيشهم. والفصائل المدربة في الثورة إنما هي منشقة عن هذا الجيش، ولها فيه أخوة من ضباط ورفاق صف، وبينهم وحدة دم. ومعظمهم تخرجوا أو تدربوا في معاهد ومدارس عسكرية روسية، وجميعهم جرى إعدادهم ليكونوا على أهبة حرب مع إسرائيل يستعيدون فيها الجولان وما أمكن من فلسطين المحتلة. لكن النظام دفعهم في الاتجاه الخطأ. بل في اتجاه الهلاك مع الأهل على أرض الوطن.
روسيا تدرك هذه الحقيقة. وهي منذ عهد ستالين كانت إلى جانب سورية، شعباً وجيشاً. وهي لم تخن الشعب السوري، ولم تخن جيشه، ولم تبخل عليه بأي نوع من أسلحة الجو والبر والبحر. وبفضل تلك الأسلحة انتصرت سورية مع مصر على إسرائيل في حرب تشرين (أكتوبر) 1973. ثم أن روسيا هي التي كانت قد تكبدت خسائر مصر وسورية في هزيمة 1967، وقد نالها من تلك الهزيمة أذى معنوي كبير ومع ذلك تحملت وأكملت علاقتها وصداقتها مع العرب.
هذا التاريخ، بل هذا الميثاق السياسي، العسكري الذي يرقى إلى مستوى الميثاق الأخلاقي بين روسيا ومعظم الدول العربية، وخصوصاً سورية، يلزم موسكو بإعادة النظر في موقفها من ثورة الشعب السوري، ويفرض عليها بناء استراتيجية جديدة مع الدول العربية، من المشرق إلى المغرب. فهذه الدول أوفى وأنفع لروسيا من إيران، ولديها أسواق باتت مفتوحة للإنتاج الحربي الروسي ولمعداته المتطورة، كما أنها أسواق استهلاك لمنتجات روسيا الحربية والصناعية والزراعية والغذائية، ثم أنها الدول الأغنى بثرواتها والأكفأ بتسهيلاتها، وقد زال الخطر الشيوعي الذي أقام بين موسكو وعواصم دول الخليج جداراً أعلى وأصلب من جدار برلين الشهير… فلماذا يدير الرئيس فلاديمير بوتين ظهره للعالم العربي ويراهن على نظام فردي يتداعى؟..
هذا التساؤل الذي يثير غضب غالبية الشعب السوري يثير أيضاً قلق غالبية الشعب اللبناني. فالتلميحات التي تصدر عن طهران تحمل نبرة التهديد والتحذير بأن عواقب إسقاط النظام السوري يجب أن تؤخذ في الحساب. ومثل هذا التهديد يعني لبنان وليس إسرائيل.
لقد سبق للقيادة الروسية أن حذرت من تدخل عسكري أطلسي في سورية. وكان موقفها هذا في عين الصواب، ولكن ماذا تفعل هي في سورية؟
لدى موسكو طبعاً أكثر من جواب. لديها قلق من جبهات «النصرة» وأمثالها، في سورية، وفي غير سورية، وهو قلق مشروع، لكن موسكو تعرف أن كل ثورة شعبية تبدأ عفوية أو عشوائية لا بدّ أن تُخترق، ثم تعود فتنتظم وتتوحد، وهذا ما تنبهت له الثورة السورية وبدأت تستدركه. لذلك هي تحتاج إلى مساعدة روسيا بالكف عن دعم خصومها على الأقل.
أهذا كثير على شعب تربى على الوطنية وعلى الثقافة الأدبية اليسارية التي تستلهم الحرية والعيش بعدالة وكرامة؟
الحياة اللندنية – عزت صافي