كشفت زيارة بنيامين نيتانياهو رئيس الحكومة الاسرائيلية لواشنطن الأسبوع الماضي والتي استمرت لخمسة أيام قضاها نيتانياهو في عقد لقاءات مكثفة مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وأركان إدارته وقيادات بارزة في الكونغرس وحضور المؤتمر السنوي لمنظمة «إيباك» الصهيونية، أن ما كان يعتبره البعض من اعتماد إدارة ترامب لسياسة «الغموض البنّاء» في إدارتها لمشروع التسوية الأمريكي لـ «النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني» الذي يحمل اسم «صفقة القرن»، والتسريب المتقطع وغير الرسمي لبعض محتويات هذه الصفقة كان وراءه هدفان أولهما الحصول من الفلسطينيين والعرب على أعلى درجة من التنازلات. وثانيهما أن تبقى صيغة الصفقة مفتوحة على تطورات المواقف الإسرائيلية بحيث تأتي صياغتها النهائية متطابقة مع ما تريده إسرائيل، لذلك حرص نيتانياهو على لقاء الفريق الثلاثي المسئول عن هذه الصفقة في الإدارة الأمريكية: جاريد كوشنير، مستشار ترامب وصهره رئيس هذا الفريق، وجيسون جرينيلات، الموفد الخاص للرئيس إلى الشرق الأوسط، وديفيد فريدمان السفير الأمريكي في تل أبيب قبل يوم من لقائه الرئيس ترامب، لحسم كل القضايا الخلافية، وجعل الصفقة متماشية مع ما تريده إسرائيل وتخطط له.
هذا ما حدث بالفعل، وهذا ما جعل نيتانياهو يخرج من لقائه مع ترامب يوم الثلاثاء الماضي متهللاً وسعيداً بما حققه من إنجازات في هذا اللقاء وكان أول ما حرص نيتانياهو على إعلانه للصحفيين عقب خروجه مباشرة من هذا اللقاء مع ترامب القول: «لم نتحدث عن الفلسطينيين أكثر من ربع ساعة، وأن نصف الوقت قد خصص لإيران، وربما أكثر.. موضوع المحادثات المركزي كان إيران، إيران، وإيران».
كثيرون فهموا عن خطأ في الإدراك، أن نيتانياهو لم يبحث صفقة القرن وتفاصيلها مع ترامب، في حين أن الحقيقة هي العكس، ولكن كل ما حدث أن كل ما أراده نيتانياهو حصل عليه في لقائه مع ثلاثي الإدارة المسئول عن هذه الصفقة في اليوم السابق للقائه مع ترامب، وأنه أراد أن يركز الانتباه على أن القضية الفلسطينية لم تعد قضية تثير أزمة في العلاقات بين تل أبيب وواشنطن، وأن ما تريده إسرائيل من ترامب تحصل عليه، ما لم يفصح عنه نيتانياهو أو ترامب بخصوص مآل «صفقة القرن» كمحصلة لزيارة الأيام الخمسة جرى الإفصاح عنه على لسان نيتانياهو نفسه، خاصة في حديثه أمام المؤتمر السنوي للجنة الأمريكية الإسرائيلية للعلاقات العامة «إيباك»، وتصريحات كل من مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي، ونيكي هايلي رئيسة الوفد الدبلوماسي الأمريكي بالأمم المتحدة أمام هذا المؤتمر. مجمل هذه التصريحات كشف ما يمكن اعتباره الحقائق الخفية لهذه الصفقة ومآلاتها.
أولى هذه الحقائق أن الإدارة الأمريكية، بعد زيارة نيتانياهو لم تعد في عجلة من أمرها لطرح «صفقة القرن». يبدو أن نيتانياهو نجح في تمرير مشروعه الخاص بالتسوية، والذي من أجله يعتنق سياسة «الصبر الإستراتيجي» بالرهان على الزمن الذي يؤمن أنه يعمل، بالمطلق لصالح إسرائيل، وأنه نجح في أن يأخذ من الصفقة ما يريده وأن يرجئ ما لا يريده. فهو يرفض بالمطلق أي دعوة لإقامة دولة فلسطينية على أي أرض فلسطينية، ويرى أن حل المشكلة الفلسطينية ليس أمامه غير مسارين إما القبول الفلسطيني بالحكم الذاتي الأقرب إلى «المعازل العنصرية» التي كانت في دولة جنوب إفريقيا وروديسيا قبل استقلالهما، وإما الانضمام إلى المملكة الأردنية في فيدرالية أو كونفيدرالية، لذلك هو ليس مع الجزء الخاص بإقامة دولة فلسطينية الوارد في مشروع ترامب للتسوية حتى لو كانت على أجزاء محدودة من فلسطين المحتلة، لكنه مع الجزء الآخر الوارد بالمشروع الذي يدعو إلى «السلام الإقليمي»، ويرى ضرورة إعطاء أولوية للسلام الإقليمي الذي يقود إلى تحالف إسرائيلي- عربي ضد الخطر الإيراني.
يبدو أن نيتانياهو نجح مع الإدارة الأمريكية في تأجيل أو حتى تجميد طرح المشروع الأمريكي للتسوية «صفقة القرن» مع تفعيل الأجزاء التي تحقق المصالح الإسرائيلية، ومن هنا جاء تصريحه الخطير عقب انتهاء محادثاته مع الرئيس الأمريكي بأنه «لم ير أي مسودة أو جدول زمني لخطة السلام الأمريكية» وجاء حرصه على أن يعيد التأكيد على «الخطر الإيراني» في حديثه أمام مؤتمر «إيباك»، لكن الأهم هو تبجحه بأن يتباهى بـ «حالة الانسجام التام» مع الدول العربية في مواجهة هذا الخطر، وأن يقول إن «معظم، بل كل الدول العربية هي الآن صديقة لإسرائيل».
ثانية هذه الحقائق هي تطابق الرؤى الأمريكية، كما عبر عنها رموز الإدارة، مع الرؤى الإسرائيلية وبالتحديد رؤى نيتانياهو على نحو معا جاءت كلمات مايك بنس نائب الرئيس ونيكي هايلي رئيسة الوفد الأمريكي بالأمم المتحدة أمام مؤتمر منظمة «إيباك» الصهيونية، اللذين أخذا يعددان «مفاخر دولة إسرائيل اليهودية الديمقراطية» ويطلقان التهديدات لأعدائها من العرب والإيرانيين مستعرضين سجل دعمهما الطويل والعميق لإسرائيل. مايك بنس، مهندس دعوة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أخذ يتباهى بإجراءات الرئيس ترامب بهذا الخصوص، وقال، وهذا هو الأهم إن «الإدارة الأمريكية لم تتخذ أي خطوات لاستباق قضايا الحل النهائي»، مؤكداً أن «الأمن الإسرائيلي غير مطروح للتفاوض»، وفي ذات الوقت أخذ يركز على أهمية دعم التدافع العربي للتقارب مع إسرائيل، وقال بالنص: «رياح التغيير تهب على الشرق الأوسط.. والأعداء القدامى أصبحوا أصدقاء(!!)، أبناء إسحق وإسماعيل سوف يلتئمون سوياً». أما نيكي هايلي فقد أفرطت فيالإطراء على إسرائيل وأخذت تتباهى بأدوارها الداعمة لها وتتعمد بمواصلة هذه الأدوار مؤكدة أن إسرائيل «لن تختفي»، وأن «السلام يمكن أن يتحقق فقط عندما يدرك العالم ذلك»، وأن إدارة ترامب عازمة على «شمل المستوطنات الإسرائيلية تحت سيادة إسرائيل وبقاء قوات الأمن الإسرائيلية في الضفة الغربية، وتخلى الفلسطينيين عن حق العودة في أي اتفاق سلام»، ومؤكدة أيضاً أن القدس «كانت وستظل عاصمة لإسرائيل»، وأن هذه هي الحقيقة التي امتلك ترامب الشجاعة ليؤكدها.
كل هذا يعني أن «صفقة قرن ترامب» باتت بين مآلين إما التأجيل أو التجميد حتى يتحقق التوافق الفلسطيني والعربي مع الطموحات الإسرائيلية، وإما أن تترك لبنيامين نيتانياهو الفرصة ليعيد صياغتها كما يحلو له، وترك أمر قبولها أو رفضها للفلسطينيين والعرب.
عن «الأهرام» المصرية
مآلات «صفقة القرن» بعد زيارة نتنياهو لواشنطن بقلم: الدكتور محمد السعيد إدريس
