مهما قيل عن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، فقد أصاب نجاحاً كبيراً في تحقيق ثلاثة أمور لم تكن مطروحة من قبل، أولها وأقلها أهمية أنه قضى على المستقبل السياسي لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي رجل طهران وواشنطن في الوقت نفسه. الآن بات خروج المالكي على رغم أنه الفائز الأكبر في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، شرطاً لإخراج العراق من مأزقه الحالي، إن كان هناك ثمة مخرج، وربما أن هذا ما أفقد المالكي رشده ودفعه للإفصاح عن رؤية طائفية للأحداث وللمكون الآخر من الشعب الذي يفترض أنه يمثله في البرلمان والحكومة، إذ ألقى خطاباً أخذ به العراقيين إلى أكثر من 1400 عام إلى الوراء، معلناً أن ما يحدث الآن استمرار لما كان يحدث، وأنه «مواجهة بين أنصار يزيد وأنصار الحسين». وتساءل البعض إن كان المالكي يتكلم هنا باعتباره رئيساً لحكومة وطنية، أم رئيساً لحسينية في النجف؟
الأمر الثاني أن «داعش» أرغم الرئيس الأميركي على مراجعة موقفه الراسخ بعدم التدخل في أحداث المنطقة، إذ لا يزال أوباما متمسكاً بعدم وضع جنود أميركيين على الأرض في العراق، لكن الأحداث ربما تضطره لاحقاً إلى ذلك. حتى الآن أرسل 300 من المستشارين العسكريين للمساعدة في السيطرة على الوضع، وتقدر صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية أن هذا الرقم ربما يرتفع إلى 600. أصبح موقف واشنطن رهينة لأحداث أطلق شرارتها «داعش»، ووضع سياسة الإدارة الأميركية هدفاً لموجة انتقادات حادة داخل النظام السياسي وفي الإعلام الأميركي لم تتوقف، بل تتصاعد مع تصاعد هذه الأحداث.
الأمر الثالث والأهم الذي فرضه «داعش»، أنه وضع إيران أمام خيار كانت دائماً تتفاداه بكل الوسائل، وهو التدخل العسكري المباشر والمعلن في العراق وسورية معاً، إذ ترتكز السياسة الإيرانية في توسيع دورها ونفوذها في المنطقة على قوى الشيعة العرب المتحالفين معها، وذلك إدراكاً منها لخطورة تدخل مباشر في البلدان العربية على خلفية حساسيات تاريخية وقومية ومذهبية حاضرة لدى الإيرانيين، كما لدى الطرف الآخر.
في سورية مثلاً حيث الغالبية السنية الكبيرة، وغياب مكون سياسي شيعي مهم، وجدت إيران في حكم عائلة الأسد حليفاً ثميناً يملك دولة أمنية قوية. كان هذا واضحاً قبل الثورة، واتضح أكثر بعدها. عائلة الأسد وحلفاؤها السوريون هم من يباشر عملياً تحقيق ما تريده إيران، وهو منع وصول الغالبية إلى الحكم. تريد عائلة الأسد البقاء في الحكم بأي ثمن، بما في ذلك ارتكاب المجازر وجرائم الحرب ضد الشعب السوري. تعتقد إيران أنها بذلك تكسب سياسياً من دون تدخل مباشر، لكن أثبتت أحداث الثورة أن عائلة الأسد مع حلفائها المحليين غير قادرة على تحقيق المهمة من دون دعم خارجي، وهو ما اضطر إيران إلى إرسال مقاتلين من الشيعة العرب، ومن أبرزهم مقاتلو «حزب الله» اللبناني، ولواء «أبو الفضل العباس»، و»عصائب أهل الحق»، وهذا فرض بدوره دعماً مالياً وبمعدات عسكرية، وخبراء من «الحرس الثوري»، وإن بشكل غير معلن، وتحت أغطية رسمية مختلفة.
في العراق لم تكن هناك ثورة، كان هناك نظام محاصصة طائفي تم فرضه بتفاهم أميركي – إيراني، وطبقة سياسية عراقية جاءت إلى الحكم تحت ظلال هذا التفاهم وفي إطار الاحتلال الأميركي. مأزق العراق حالياً يعكس رثاثة الطبقة السياسية الجديدة، فالقوى الشيعية تعتقد أنها كانت تخضع لهيمنة السنّة، وبدلاً من أن تأخذ ببديل ديموقراطي تعددي وتداول سلمي للسلطة، اختارت ما يرقى إلى نوع من الثأر من الماضي، كما تراه هي على الأقل، وهو أن دورها جاء لتستأثر بالحكم على حساب القوى السنية، إلا أنها لا تستطيع تحقيق ذلك من دون دعم إيراني. مرة أخرى سنحت لإيران فرصة تحقيق ما تريده من خلال قوى عربية داخلية، وتفسير ذلك واضح، وهو أن إيران نجحت في إقناع حلفائها بأنها دولة الشيعة في المنطقة، وأن ازدياد نفوذها يعدل ميزان القوى في هذه المنطقة لمصلحة هذه الدولة، الأمر الذي لا يصب في مصلحة حماية حقوق هؤلاء الحلفاء فقط، بل يحقق لهم السيطرة داخل بلدانهم، وهي رؤية تعبّر عن غباء سياسي تغطيه أدخنة الصراعات المحتدمة.
بعد سقوط الموصل تغير المشهد. فجأة برزت قوة «داعش» وحلفائه من العشائر السنية الثائرة، والجيش العراقي السابق. ما زاد الأمر سوءاً أن سقوط الموصل أسقط معه حليف إيران الأهم، المالكي و«ائتلاف دولة القانون» الذي يترأسه، وقسم القوى الشيعية، غالبية السنّة ترفض «داعش» من حيث المبدأ، لكن هذه الغالبية مكشوفة سياسياً. الأميركيون أقرب إلى الأكراد والشيعة. إيران عدوتهم، وتعمل على إقصائهم وتهميشهم، وتدعم المد الطائفي في بلادهم، وفي الجوار الدول العربية لا توفر لهم غطاء ولا دعماً في مقابل ما يحصل عليه خصومهم من دعم إيراني وأميركي، الأكراد منشغلون بتأسيس دولتهم، وجاءت الأحداث الأخيرة لتؤكد لهم أن خياراتهم ليست في بغداد ولا في طهران، وإنما في أربيل وكركوك. كان أمل المالكي ومعه طهران أن تتولى واشنطن وقف زخم الأحداث، ولجم تقدم «داعش» والعشائر بضربات جوية، لكن واشنطن تبدو مترددة، إذ بدأت تدرك أن المالكي ومن ورائه طهران، هو سبب المشكلة، ولعل أفضل من صور الرؤية الأميركية للأحداث هو الجنرال جي غارنر، أول من تولى مسؤولية إعادة إعمار العراق بعد الاحتلال. في حديث لافت لـ«سي أن أن» اعتبر غارنر أن «داعش» مشكلة إيران، قبل أن تكون مشكلة أميركا، وإيران كما يقول لديها سلاح جو، ويتساءل لماذا لا تتولى ضرب «داعش»؟ ثم يضيف إلى ذلك كلاماً أميركياً غير مسبوق، وهو أن المالكي عميل إيراني يريد منا ضرب «داعش»، ليجير المكاسب السياسية بعد ذلك لنفسه ولرعاته في طهران. جنرال أميركي آخر هو ديفيد بترايوس الذي تولى قيادة القوات الأميركية في العراق ما بين 2006 و2008، حذر من تحويل سلاح الجو الأميركي في هذه الظروف، إلى سلاح بجانب الشيعة ضد السنّة في العراق.
الأحداث وضعت إيران مباشرة أمام الحال العراقية. سقوط الموصل يعني أن حلفاءها لم يعد بمقدورهم مواجهة الموقف وحدهم. هل تتدخل بشكل مباشر ومعلن؟ تدخلها سيحول تقسيم العراق من أمر واقع إلى حال رسمية، وهذا من ناحية يخدم مصلحتها، لكن تدخلها المباشر سيقلب اللعبة عليها، وسيضاعف من استنزافها، وهو استنزاف لا يزال مستمراً في سورية. الأسوأ أن تقسيم العراق سيعزلها جغرافياً عن سورية. فكيف ستتصرف؟ لا تزال إيران تلتزم الصمت، والتحركات الخفية. الإجابة عن هذا السؤال أحد المؤشرات التي ستحدد وجهة الأحداث في العراق.
الحياة اللندنية