يبدو حديث المصالحة الفلسطينية بين الضفة الغربية وقطاع غزة، لكثرة ما تكرر وما تأجل وما تعقد، حديثاً يحتاج الى إعادة نظر شاملة في أساسياته.
فحتى هذه اللحظة، ورغم امتداد هذا الحديث على سنوات، يبدو أن شكله الخارجي يعني شيئا، ومضمونه يعني شيئا آخر، بل ربما اشياء أخرى.
في الشكل الخارجي، فإن الحدود القصوى لهذا الحديث لا تصل، ولم تصل في يوم من الأيام، الى أكثر من هدنة أو تهدئة أو تفاهم، بين السلطتين القائمتين في كل من رام الله وغزة.
ولو راجعنا تطور الامور والعلاقات بين الاقليمين الفلسطينيين الخاضعين، بشكل أو بآخر، لسلطة الاحتلال وجبروته وحصاره لحدود الاقليمين حصارا كاملا، ان تقدماً في هذا الشكل الخارجي لحديث المصالحة قد حصل، بما يكفي لإنجاز هذا الغرض المحدود في كل حال. فقد مضى وقت طويل لم تعد فيه سلطات رام الله تعاير سلطات غزة بتسمية «الحكومة المقالة في غزة»، كما لم تعد سلطة قطاع غزة تعاير رأس السلطة في رام الله، بأنه «الرئيس المنتهية ولايته».
يبدو أنه بعد تطور الأمور في غزة، ووصولها الى مرحلة أصبحت فيه القضية هي التهدئة مع اسرائيل، في مرحلتها الاولى، والعمل للوصول الى تخفيف الحصار الاسرائيلي للقطاع، أو إزالته إن أمكن، بتفاهم مع دور العهد الجديد في مصر، في مراحل متقدمة. بعد هذه المرحلة الجديدة، يبدو لي أن الفوارق الجوهرية بين السلطتين في كل من رام الله وغزة قد خفت الى درجة كبيرة، حتى لم تعد هنالك فوارق بين الاثنين إلا في الشكل الخارجي.
لقد أصبح الوضع السائد بين المسؤولين في الاقليمين، بعد مبادرات شكلية قامت بها «حماس» تجاه مبعوثي السلطة الى غزة، وأنصارها في غزة، أشبه بتطبيق للمثل الشعبي القائل: «مرحبا يا جاري / انت في دارك وانا في داري».
انها أشبه بمصالحة غير معلنة، تتيح لكل سلطة في كل اقليم ان يتدبر أموره اليومية مع سلطة الاحتلال الاسرائيلي، بما يناسب أوضاعه الهيكلية.
وتكاد أوضاع هذه المصالحة أو التهدئة غير المعلنة بين السلطتين، تبدو غير بعيدة عن تعيين ممثل رسمي لحماس في رام الله، وممثل رسمي لفتح في غزة.
ولعلنا لا نذهب في التشبيه بعيدا اذا قلنا انه بناء على تكرس هذه الاوضاع السائدة، والتعود عليها حتى التبلد، انه أصبح لكل من هاتين السلطتين الفلسطينيتين، تحالفاتها الاقليمية والدولية المفضلة. يجري كل ذلك في ظل ما يشبه نظامين للحكم، يتمتعان بسلطة وهمية، ويخضعان في الحقيقة الى احتلال شامل وعميق.
انه نوع من أنواع مصالحة الامر الواقع، الى درجة التعود والاستغراق.
لكن الامر لا يبدو كذلك اذا طرحنا أسئلة من نوع: أين كل هذا من موضوع الوحدة الوطنية الفلسطينية، بين شعب فلسطين في كل من اراضي 48، وأراضي 67، والشتات العربي والدولي؟
او أين هذا الوضع من أساسيات وجوهر الجريمة التي دمرت فلسطين في العام 1948، قبل ان تستكمل سرقتها في العام 1967؟
لذلك يعتقد كثيرون انه حتى لو تطورت شكليات هذه المصالحة بين السلطتين الى حد توقيع وثائق مصالحة جديدة، أو إحياء الوثائق القديمة، من خلال احتفالية يجري فيها العناق وتبادل القبلات، فإن ذلك لن يكون أكثر من تكريس للوضع البائس.
لم يعد المطلوب هذه المصالحة الشكلية بين سلطتي رام الله وغزة، بل المطلوب هي مصالحة وطنية فلسطينية شاملة مع أساسيات القضية الفلسطينية، كما كانت ليس فقط قبل «اتفاقيات اوسلو»، بل قبل التعديلات التي أدخلت على الميثاق الوطني الاصلي لمنظمة التحرير الفلسطينية.
لنستعد أساسيات القضية وجوهرها اولا، وبعد ذلك تسهل عملية وضع كل التجارب السابقة للنضال الفلسطيني، بإيجابياتها وسلبياتها، موضع الدرس لابتداع أساليب خلاقة في استعادة المقاومة الشاملة لشعب فلسطين، لإنجاز حق عودة هذا الشعب الى وطنه التاريخي، كحل وحيد لهذه المعضلة الانسانية التي أحدثتها الجريمة التاريخية الاصلية التي ارتكبت في العام 1948.
عن السفير اللبنانية