كانت الولايات المتحدة ولا تزال الداعم الأكبر لإسرائيل والضامن الأقوى لأمنها. وكثيراً ما تصرفت مع إسرائيل وكأنها أحرص عليها من نفسها وأنها تقف إلى جانبها في كل الشدائد ومن دون قيد أو شرط. وبرغم الخلافات السياسية والشخصية الوفيرة بين إدارة الرئيس باراك أوباما وحكومة بنيامين نتنياهو، إلا أن هذه الإدارة كانت الأكثر سخاءً في تقديم العون الى إسرائيل. لذلك لم يكن من السهل المرور بشكل عابر على اتصال الرئيس الأميركي برئيس الحكومة الإسرائيلية ليعرض عليه التوسط مع «حركة حماس» لوقف إطلاق النار.
سبق هذه الاتصالات اتصالات متعددة من جانب وزير الخارجية الأميركية جون كيري الذي حاول من خلال محادثاته مع كل من نتنياهو والرئيس الفلسطيني محمود عباس بحث سبل وقف تدهور الوضع. كانت كل هذه الاتصالات قد جاءت ليس فور بدء العدوان، وإنما بعدما صار العدوان عرضة للتوسع وبالتالي تهديد «استقرار المنطقة» كما يقول الأميركيون.
يصعب القفز عن حقيقة أن الإدارة الأميركية كانت أول من ساند العدوان وقدّم له التسويغ التام عند الإعلان عن أن إسرائيل «تمارس حقها في الدفاع عن النفس». فكيف تغيّر الموقف الأميركي بسرعة وخلال يومين من تأييد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد «حماس» وبين الاستعداد للتوسط مع الحركة رغم أن «حماس» هذه كانت ولا تزال مصنّفة أميركياً كمنظمة إرهابية؟
الجواب على هذا السؤال يكمن ربما في القراءة الأميركية للوضع، التي عبّر عنها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون من أن المنطقة لا تنقصها حروب إضافية. ولكن جانباً من الحروب في المنطقة تدار أميركياً، أو على الأقل لأميركا مشاركة فعالة فيها، فماذا يضير أميركا من حرب أخرى، خصوصاً أن إسرائيل هي من تخوضها ولدى إسرائيل قدرة لا يُستهان بها على التعامل معها؟
يعتقد بعض الإسرائيليين أن الحرب الجارية ليست مرغوب فيها وهي مفروضة سواء على جزء من المستوى السياسي الإسرائيلي أو على الجيش نفسه. ومن يخوضونها ينزلقون إليها من دون كثير رغبة ولكن بقصد الحفاظ على صورة إسرائيل كقوة لا تلين.
وثمة خشية من أن استمرار المعارك من شأنه أن يزيد ضائقة إسرائيل فضلاً عن تعقيد الوضع الإقليمي والأهم أن يورّط أميركا في تعويضات جديدة لإسرائيل.
يذهب هؤلاء حد الإشارة إلى أن واحدة من أهم مشكلات نتنياهو في هذه الظروف هو عدم توفر الوسيط المناسب. ومعروف أن النظام الحالي في مصر عاجز، من ناحية، وغير راغب، من ناحية أخرى، في التعامل مع «حماس» كوسيط نزيه.
وفضلاً عن ذلك فإن إسرائيل ليست في وضع يسمح لها باستغلال نفوذ كل من تركيا أو قطر للعب دور الوساطة. ولا تستطيع إسرائيل التي أعلنت الحرب على حكومة الوفاق الفلسطينية حتى أن تطلب من الرئيس عباس لعب هذا الدور. فالوضع يزداد خطورة لجهة وقوف إسرائيل أمام خيار كسر التعادل الحالي عبر شن حرب برية تنطوي على المزيد من التورط والخسائر.
أما بحسب بيان البيت الأبيض فإن أوباما، للمرة الأولى منذ بدء «الجرف الصامد»، اتصل هاتفياً بنتنياهو ليعرض عليه العون في العثور على حل يقود إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس». وبديهي أن أميركا ليست في موضع يسمح لها بأن تكون وسيطاً مع «حماس»، لكنها تستطيع التأثير في آخرين، وخصوصاً مصر.
على الأقل، هناك اتفاق تم في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، برعاية مصرية أميركية مشتركة، لوقف إطلاق النار في حرب «عمود السحاب» قبل حوالي عامين. وربما لهذا السبب شدّد أوباما على أن «الولايات المتحدة مستعدة للعمل بغية التوصل إلى وقف القتال والعودة إلى تفاهمات ما قبل عام ونصف».
وفي الوقت ذاته، لاحظ معلقون أن اتصال أوباما جاء بعد تلميحات إسرائيلية ثقيلة بقرب بدء عملية برية واسعة. وقد تحدث عن هذه العملية علناً الرئيس الفلسطيني محمود عباس قائلاً إن القرار الإسرائيلي اتُّخذ بشنها خلال ساعات.
وأعلن نتنياهو في حينه بعد اجتماع للمجلس الوزاري المُصغّر أن «المعركة تتقدم وفق المخطط، وبانتظارنا مراحل أخرى لاحقة». وفسّر رئيس الأركان الجنرال بني غانتس كلام نتنياهو، معلناً أن المقصود هي المعركة البرية.
من جهتها، أشارت صحف إسرائيلية إلى أن أميركا تحاول إقناع إسرائيل بالتريث وعدم شن المعركة البرية؛ في محاولة لإيجاد حلول ديبلوماسية توقف إطلاق النار. وأعلنت المتحدثة بلسان الخارجية الأميركية جين ساكي أن وزير الخارجية جون كيري قلق من التصعيد الميداني ومعني ببدء العمل من أجل وقف إطلاق النار والعودة للهدوء. قالت ساكي، «نحن نريد استخدام كل وسائلنا من أجل وقف الإطلاقات الصاروخية ونحن نتقدم في هذا الشأن»، مضيفة «سنعمل مع كل حكومة يمكنها أن تلعب دوراً في وقف إطلاق النار».
وكان لافتاً قول ساكي: «لا أحد يريد رؤية اجتياح إسرائيلي بري لقطاع غزة ولذلك من المهم اتخاذ خطوات لتقليص التصعيد»، مشيرة الى أن «الولايات المتحدة غير معنية برؤية مساس بالمدنيين الأبرياء».
في كل حال وإضافة الى جهود كيري التي يبدو أنها أثمرت تحركات قطرية وتركية وأيضاً مصرية، هناك جهود مستشار أوباما لشؤون الشرق الأوسط، فيليب جوردون الذي يدير اجتماعات مع السلطة الفلسطينية في رام الله والحكومة الإسرائيلية لإيجاد سبل لوقف إطلاق النار.
ورغم عدم وجود صيغة أميركية محددة، إلا أن الشعار هو العودة إلى تفاهمات «عمود السحاب» وليس بعد هجوم بري. ومن الجائز أن تحاول أميركا التوصل إلى قرار بهذا الشأن وبهذه الروحية في مداولات مجلس الأمن الدولي الجارية حالياً في نيويورك.
السفير