الفارق بين ثورة الشريف حسين بن علي (الثورة العربية الكبرى) في ١٩١٦ والثورة العربية التي بدأت بحرق محمد بو عزيزي لجسده احتجاجاً على الإهانة والبؤس عام ٢٠١٠ أن الثورات العربية الجديدة حركتها مجموعات صغيرة وأفراد من الشبان والشابات العرب ممن تميزوا بالنقاوة والحس المستقبلي. فمنذ الثورات والحركات الإصلاحية العربية الممتدة في الإقليم العربي نلاحظ أن مصادر القوة لم تعد، كما كانت في السابق، بيد النخب المتنفذة رغم قدراتها وإمكانياتها المالية والأمنية. بل هناك قوى جديدة لا زالت في طور النمو، لا تنتمي الى النخب والقادة ولا الى الأحزاب، قادرة على التأثير في المجتمعات في مسائل تمس مصيرها وحقوقها ورغباتها وتطلعاتها. لقد تغير العالم العربي. ففي السابق كانت مصادر القوة والنفوذ بيد الجيوش والفئات المتنفذة وأجهزة الأمن والقادة، أما اليوم فمصادر القوة في البلدان العربية بدأت تميل ببطء نحو قوى اجتماعية تتوالد خارج الأطر السلطوية وتعيش في قاع المجتمعات وبين طبقاتها الوسطى.
إن وسائل القيادة الأبوية تشهد تراجعاً، بينما تشهد القيم الهرمية العربية التي توارثناها عبر القرون والتي طالما تميز بها المجتمع العربي تراجعات مرصودة وأخرى غير مرصودة. لقد تغيرت الشعوب بفضل تضاعف السكان والقدرة على التحرك والسفر والانتقال والذي ترافق مع انتشار المعلومات والمعارف والتعليم والتجارب والتواصل والأفكار، وقد تعمق التغير بسبب انتشار البطالة والفقر والفساد وسوء الادارة ما أدى الى بروز وعي جديد بالحقوق والكرامة وضرورات التغير وتحدي الخوف والسلبية والسعي الى التوزيع العادل ومساءلة الحكومات.
إن مفهوم القوة والسلطة وبالتالي السياسة الذي تتبناه المدرسة العربية الحاكمة لا زال كما كان قبل عقود: هذه المدرسة تؤمن بأن الحاكم يقرر مجريات السياسة وحدودها وآفاقها، وأن السياسة في جوهرها عملية هرمية تبدأ في القمة من خلال أدوات القوة والنفوذ والإقناع وتفترض ان الحاكم يملك معظمها من خلال تحالفاته مع النخب الدينية والأمنية والمالية والقضائية.
ورغم أهمية القيادة والإدارة في كل شيء، الا ان هذا الجانب الهرمي في القيادة هو الذي يتغير اليوم. إنه يتغير أيضاً في القطاع الخاص وفي المؤسسات، هذا عالم يتغير. وهذا يجعل الكثير من الهياكل القيادية شكلاً بلا مضمون، ضباطاً كباراً بلا جيوش حقيقية، قادة أجهزة بيروقراطية وشركات كبرى بلا مؤسسات فاعلة. إن مفهوم السلطة العربية مفعم بالروح الميكيافيلية وضرورات السيطرة المركزية على أدوات العنف والأمن والجيش والمال والقضاء والإدارة، لكن هذا الهوس هو المسؤول عن هزّ بنى الدولة العربية كما عرفناها في العقود الماضية، إنه المسؤول عن الانقسام والتشرذم والفساد وفي نفس الوقت عن الثورات والحراكات والغضب والرفض والتمرد.
وعندما تسقط مفاهيم كبرى وقيم رئيسية لأساليب الحكم ووسائله سوف تستفيد قوى تقليدية تعيش بين زمنين وبين عصرين من الفراغ موقتاً. في أماكن ستحاول الجيوش والقوى الأمنية العودة وكأن شيئاً لم يقع وكأن الناس ستقبل بالحكم العسكري (سورية والعراق ومصر مؤخراً). وفي أماكن أخرى سيحاول بعض المتطرفين إقناع السكان بأنهم يملكون مفاتيح الحل للخروج من الأزمة. لهذا سيقع الكر والفر، بينما قد تقع بعض المساومات كما حصل في تونس بينما الجميع يبحث عن الجديد.
إن بروز «داعش» و»النصرة» وفئات اخرى متطرفة يعكس ذلك الفراغ الذي تمر به حالة التغير في المنطقة، فهذه القوى تملك فكراً وطرحاً مبسطاً وشكلياً للإنسان ومتطلباته وللتاريخ والمستقبل، فهذه الجماعات قادرة على التفجير ولكنها عاجزة عن البناء. إن «القاعدة» و»داعش» وكل ما يشبههما نتج من السجون والتعذيب وأخطاء السلطات والأنظمة، فلو لم يسعَ رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي لتهميش السنّة في العراق والاستحواذ على السلطة منذ الانسحاب الأميركي بمعزل عن فئات رئيسية من المجتمع العراقي في الوسط السني والشيعي، لما كانت هناك فرصة لـ «داعش». وفي نفس الوقت لو قام الرئيس السوري بشار الأسد بالتعامل بمسؤولية مع الثورة السورية عندما اندلعت في البداية عام 2011 لما كان هناك «داعش» و»قاعدة» في سورية.
وتنكشف في ظل هذا الوضع العربي الجديد صيغ اختزال الديموقراطية على أنها صندوق اقتراع وانتخابات، من دون النظر الى الأبعاد الأخرى التي تضمن الديموقراطية. فالديموقراطية غير ممكنة في ظل قانون للانتخابات تضعه سلطات تنفيذية، والانتخابات غير ديموقراطية في ظل انحياز الدولة وأجهزتها وإداراتها لأحد المرشحين. إن قيامها باستخدام أموال الدولة في تمويل مرشح محدد هو الفساد الانتخابي بعينه. إن انتخاب رئيس بينما حق التعبير محارب وبينما فريق التيار المعارض وقادته في السجن يؤدي حتماً الى نتائج غير ديموقراطية.
لكن لو افترضنا توافر النزاهة في الانتخابات فإن على الغالبيات المنتخبة أن تتمتع بالمرونة، وأن تعتبر انتصارها موقتاً ومشروطاً بالانفتاح على الأقليات بخاصة الأثنية واللغوية والدينية والطائفية. هذا يعني أن الذي يفوز في الانتخابات، في ظروف الحيادية والنزاهة، يجب أن يصبح رئيساً لكل الفئات والطوائف. في الزمن القادم ستكون صفات مثل تواضع القيادة وحسن استماعها وقيامها بعملها وقبولها بوجود قيود قانونية ورقابية على أحادية تصرفها هي احدى محددات وشروط القيادة.
أن الشعوب العربية او على الأقل طلائعها الكامنة من القوى الشبابية تنتظر لترى كيف يرد النظام العربي على المرحلة الأولى من الربيع العربي: هل يستمر النظام العربي بالقمع والاعتقال والوصاية والأبوية والفوقية والسجن كما كان الأمر مع القذافي ومبارك والأسد وآخرين؟ وبينما ينتظر الشبان في مخابئهم وسجونهم يوجه النظام العربي ضرباته لمنطقهم وللحالة التي يعبرون عنها. الشيء الأكيد ان المرحلة تغيرت وتطرح لغة جديدة لا زال النظام العربي لم يستوعبها. لغة القمع والسجن والضرب والتعذيب والأحكام والفوقية والقضاء المسيّس لن تكون قادرة على الصمود في الزمن القادم أمام رياح التغير. هذه الوسائل لم تعد تجدي، وإن كانت تشتري بعضاً من الوقت.
في سنوات سابقة قرأت بعض ما كتب عن الثورة الروسية للعام ١٩٠٥ وكيف نجح النظام القيصري في هزيمة الثورة في ذلك العام. لكن الثوريين استفادوا من ثورة ١٩٠٥ وسعوا بعد ذلك لتغيير الأساليب والفكر وعادوا بعد ذلك بثورة شاملة كسرت القديم وأقامت الاتحاد السوفياتي في عام ١٩١٧. لكن الفشل الكبير والأخطر كان بالأساس لنظام القيصر الذي استمر بنفس الوسائل القمعية والإدارية في السنوات بين ١٩٠٥ و ١٩١٧. فلو نجح النظام الملكي القيصري بالإصلاح في تلك السنوات لما عرف العالم الشيوعية وانتشارها بالشكل الذي وقع بعد عام ١٩١٧. تتجمع في الواقع العربي بدايات موجة ثورية أكبر وأخطر وأعمق وأشمل مما رأينا في ٢٠١٠-٢٠١١. ليس السؤال: هل ستقع الموجة، لكن السؤال الأكبر متى؟
يجب عدم التقليل من قوة الأمن والأجهزة والمال في الوضع العربي وأهمية الدولة العميقة، لكن يجب عدم التقليل من امتلاء المشهد بقوى جديدة لا تنوي الانسحاب. هذه القوى تزداد توقداً وخبرة في سجون الأنظمة وقاع المجتمعات والساحات العامة. بلا اعتراف واضح بقوة جميع الأطراف وقيمتها وعلى الأخص القوى الشبابية الناشئة في ظل المتغيرات العددية والعمرية وفي ظل ثورة الرغبات والاحتياجات والتساؤلات ستبقى المنطقة عرضة لتحولات كبرى مفاجئة. إن بقاء الأنظمة العربية أسيرة قوة المال والحلول الأمنية والسيطرة وتحويل القضاء الى أداة سياسية على حساب الحقوق والعدالة، سيرفع من منسوب التناقض بين المجتمعات العربية من جهة وهيكليتها القديمة التي تزداد ضعفاً. ان إعادة تأمين الواقع العربي لن تكون ممكنة بلا حقوق واقتصاد عادل وأنسنة وحريات وفصل سلطات ومواجهة فساد. نحن في مرحلة بين مرحلتين، وفي زمن بين زمنين.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت