بينما تعرضت غزة أخيراً لتدمير آخر في نوبة جديدة من العنف، يبرز السؤال: ما الذي حققته إسرائيل من قصفها الذي استمر 26 يوماً وغزوها البري للقطاع؟ يبدو الناتج حتى الآن مماثلاً لحاصل تلك الحروب السابقة التي خاضتها إسرائيل في كل من لبنان وغزة: استخدام قوة نيران هائلة بهدف إيقاع خسائر فادحة في الجانب الآخر، وتكون الغالبية العظمى من الضحايا من المدنيين. لكن القادة الإسرائيليين يجدون، بينما تتواصل الحرب، أن تفوق إسرائيل العسكري يخفق في تحقيق مكاسب سياسية مماثلة.
أما الأسوأ من ذلك، من جهة النظر الإسرائيلية، فهو أن الفلسطينيين -حماس في هذه الحالة- هم الذين يظهرون في موقف أقوى مما كانوا عليه قبل شهر من بدء القتال. فقد أعادت إسرائيل بتصرفاتها المتهورة القضية الفلسطينية بقوة إلى صدر الأجندة العالمية التي كانت قد اختفت منها إلى حد كبير منذ الانتفاضات العربية في العام 2011. وقبل بضعة أشهر فحسب، قال لي صديق متعاطف مع الفلسطينيين، متأسياً، إنه نادراً ما سمع خلال رحلاته المختلفة إلى الولايات المتحدة وأوروبا والعالم العربي كلمات “فلسطين” أو “الفلسطينيين”. لكن غزة، وبكلفة رهيبة من أبناء شعبها، غيرت ذلك كله.
في العادة، ظلت مواطن معاناة الأربعة ملايين فلسطيني المحاصرين في غزة والضفة الغربية غير مرئية للناس في بقية أنحاء العالم. لكننا رأينا على مدى الشهر الماضي، وليلة بعد ليلة، صوراً للعائلات الفلسطينية مع أولادها المصابين والمرعوبين، وهي تحاول البحث عن السلامة عبثاً وسط المنازل والمستشفيات المدمرة. وبدا المتحدثون الإسرائيليون ماكرين وبلا قلب بينما يزعمون أنه ليس هناك أي دليل على مسؤولية إسرائيل عن قصف مستشفى تابع للأمم المتحدة أو ملعب للأطفال، محاولين الإيحاء بأن صاروخاً لحماس ربما يكون قد أخفق وأصاب هذه الأماكن. ربما ينفع مثل هذا الإنكار والتهرب في حرب قصيرة. ولكن، في الوقت الذي يُقتل فيه 264 طفلاً فلسطينياً بحلول يوم الجمعة الذي سبق كتابة هذا المقال، فإن ذلك يخدم فقط في إقناع الناس بأن الإسرائيليين لا يبالون بكم من الفلسطينيين يقتلون.
بطبيعة الحال، كنا في هذا المكان مرات عدة من قبل، حيث تمثل التدخل الإسرائيلي الأعتى في غزو لبنان في العام 1982. وكنت قد تواجدت في مخيمي صبرا وشاتيلا هناك مباشرة بعد المذبحة التي راح ضحيتها 1.700 من الفلسطينيين على يد رجال الميليشيات المسيحية، والذين ما كانوا ليتواجدوا هناك لولا الإجراءات الإسرائيلية. وعندما أرى صور القتلى في غزة، أشعر بأنني ما أزال أشم تلك الرائحة الحلوة المرة التي تنبعث من أجساد القتلى عندما بدأت بالتعفن تحت شمس أيلول (سبتمبر) الحارة. أتذكر فقر الموتى، بملابسهم الرثة وأحذيتهم البلاسيتيكية، بينما يتمددون بلا حياة عند مداخل الحوانيت الصغيرة أو يتكومون في الأزقة الضيقة. وهناك، خارجاً في العراء، كان حمار يستلقي ميتاً بين عمودي عربة صغيرة تحمل برميل ماء، وكانت الجثث نصف مدفونة في كومة من الرمل، كما لو أن أحداً أراد أن يخفيها، لكنه تخلى عن المحاولة في منتصف المسافة لأنها كانت هناك الكثير جداً من الجثث التي تتطلب الدفن.
ليس كل شيء في غزة اليوم هو نفسه في العام 1982 أو في غزة نفسها في العام 2008. ثمة فارق حاسم هو أن الدول المجاورة لإسرائيل كانت مستقرة نسبياً في تلك الأوقات، أو أن حكوماتها كانت تفرض فيها سيطرة صارمة على الأقل. لكن ذلك لا يمكن أن يكون أقل صلة بالواقع مما هو حاله هذا الصيف، بينما تهز الحروب الأهلية كلاً من سورية والعراق، وبينما يبدو الأردن ولبنان متجهين إلى المزيد من الاضطراب. وهناك حكومة في مصر نصبها انقلاب عسكري وثبتتها انتخابات مثيرة للشكوك؛ والدولة الليبية انهارت وسقطت في خضم من الفوضى، وأصبحت تسيطر عليها الميليشيات المفترسة. وبذلك أصبحت أزمة غزة تضيف فقط إلى الإحساس العام بالأزمة.
أحد الأسباب التي تدعو إسرائيل إلى خوض هذه الصراعات الصغيرة -لأنها لم تكن هناك أي حرب واحدة شاملة منذ غزو لبنان- هو استعراض قوتها العسكرية الخام. لكنها تعرض في كل مرة، وبالتزامن، محدوديات تلك القوة فيما يتعلق بالوصول إلى أي مكان قريب من إنهاء مواجهة إسرائيل طويلة الأمد مع الفلسطينيين. ومع كل التدمير الذي تحدثه قوة نيران سلاح جو إسرائيل ودبابات جيشها المنتشرة ضد بضعة آلاف من رجال حماس المسلحين، يبقى من غير المحتمل تحقيق القضاء المبرم على هؤلاء المقاتلين، وبالتالي إحراز نصر عسكري حاسم. وحتى لو تمكنت إسرائيل من ذلك، فإن ذلك النصر لن يكون نهائياً أيضاً، بما أن شعور الفلسطينيين بالقمع والاضطهاد كبير جداً بحيث أن مجموعات مسلحة أخرى، ربما في شكل “داعش” (التي أسمت نفسها “الدولة الإسلامية”) سوف تحل محلها سريعاً.
عندما كنت مراسلاً صحفياً في القدس في الأعوام ما بين 1995 و1999، خلصت إلى الاعتقاد بأن هناك سبباً آخر، له علاقة بنفسية الإسرائيليين، والذي يفسر السبب في أنهم يستمرون في خوض هذه الحروب الدموية، والعبثية التي بلا طائل أيضاً. وقد عبر عن ذلك بشكل جيد يوري أفنيري، الكاتب وناشط السلام الإسرائيلي، الذي كتب أن الجيش الإسرائيلي ممتلئ بـ”المراهقين الذين جرى تلقينهم منذ سن الثلاث سنوات بروح الضحية الإسرائيلية والتفوق الإسرائيلي”. وينطبق الأمر نفسه على الكثير من بقية المجتمع الإسرائيلي. إن الإسرائيليين يشعرون بشكل أصيل بأنهم الضحايا الرئيسيون الذين يستحقون التعاطف العالمي، حتى عندما يكون 1.400 فلسطيني قد قتلوا بالقذائف والقنابل الإسرائيلية، مقارنة بمجرد ثلاثة مدنيين إسرائيليين وعامل تايلندي واحد قتلتهم صواريخ حماس وقذائف الهاون التي أطلقتها.
تعامل الحكومة الإسرائيلية والكثير من وسائل الإعلام كل معارض لإسرائيل، مهما كان ضعيفاً، كما لو أنه يمثل تهديداً وجودياً. وبذلك تكون أي أعمال عنف انتقامية مبررة تماماً، سواء كانت الأهداف هي الفلسطينيين، أو اللبنانيين أو الأتراك العشرة الذين قتلوا على متن واحدة من سفن أسطول القوارب الذي كان يحاول جلب المساعدات إلى غزة في العام 2010. ويمكن أن يكون هذا الشعور بالاضطهاد الدائم، المولود من المذابح والهولوكوست، أمراً مفهوماً بشكل ما، لكنه يجعل الإسرائيليين مكشوفين بشكل غريب أمام استغلال الديماغوجيين لهذا الشعور بالتعرض للتهديد. وقد أشار المتحدثون الرسميون الإسرائيليون بلهجة انتصارية إلى استطلاعات الرأي التي تكشف عن أن 90 % من الإسرائيليين يؤيدون حالياً عملية “الجرف الصامد” الواقية في غزة، لكن هذا الافتقار إلى الرأي المناقض بشأن مغامرة من المستبعد جداً أن تأتي بأي نفع لإسرائيل في واقع الأمر، هو العلامة الأكيدة على الضعف في أي أمة.
الغد الأردنية