عنوان المقال فيه بعض من الادعاء، لأنه يفترض أنه ساعة نشر المقال سوف تكون الحرب في غزة قد وصلت إلى نهايتها، وجرى نوع ما من وقف إطلاق النار، ولم يبق إلا ما بات معروفا في أدب الصراع بعملية تثبيت «التهدئة». ساعتها، سوف يتنفس العالم الصعداء، لأن جولة أخرى في الصراع العربي – الإسرائيلي سوف تضاف إلى كتب التاريخ حيث هناك الكثير من الجولات؛ وتستطيع المنطقة أن تنتقل إلى جدول أعمال آخر. وبالمناسبة، لن يشعر أي من طرفي المواجهة تبعا للسوابق أن هناك حاجة من أي نوع للمراجعة، فسوف يعلن الفلسطينيون النصر، لأنهم ظلوا حتى ساعة وقف النيران يرسلون الصواريخ على إسرائيل (بلغت ساعة كتابة المقال 1200 صاروخ، كان نتيجتها مقتل إسرائيلي واحد، ولكن كثرة من الإسرائيليين شعرت بالذعر فلجأت إلى الملاجئ وكان ذلك نصرا عظيما). الإسرائيليون سيعلنون النصر أيضا فقد قاموا بعملية تدمير واسعة لقطاع غزة (بلغ عدد الغارات الإسرائيلية 1500 وكان عدد ضحاياها 200 قتيل تقريبا وأكثر من 1000 جريح، وعدد غير معروف ولكنه كبير من البيوت والأحياء المدمرة، وكان ذلك مشبعا لكثير من الغرائز العدوانية)، وربما حصلوا على فترة توقف لإطلاق الصواريخ وهدوء نسبي، تستأنف إسرائيل في ظلها حالة الرخاء التي تعيشها. وهكذا، يعود الطرفان إلى ما كان عليه الوضع استنادا إلى اتفاق 2012 مع بعض من التعديلات هنا أو هناك. ما لم يكن الأمر كذلك ساعة نشر المقال، فربما يكون الحال هكذا قبل نشر مقال الأسبوع الذي يليه!
ماذا بعد الحرب على غزة إذن؟ هناك مدرسة في التفكير سوف تكون إجابتها «لا شيء»، فالحرب كلها لم تزد على أن تكون جملة اعتراضية على أحداث جسام تجري في المنطقة ومسرحها الأهم في سوريا والعراق حيث يتقرر بالفعل مصير المشرق العربي كله، وربما الحرب الجديدة بين الدولة العربية والإرهاب بأشكاله المختلفة. مدرسة أخرى ترى أن السوابق تقول إن الحروب عادة ما تفتح الباب لتسويات أو أوضاع جديدة تسمح بالتسوية أو نقل الأمر الواقع من حالته الساكنة إلى حالة متحركة ديناميكية جديدة يمتزج فيها الصراع مع التعاون مع التفاهمات الصامتة على كل شيء ولا شيء في الوقت نفسه. المدرسة الثالثة ترى أن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ربما وجد لنفسه مكانا في علاقات القوة والتوازنات في المنطقة كلها بعد أن بات نسيا منسيا منذ بزوغ عهد الثورات، وظهور ربيع لم تنبت له زهور. أما الرابعة، فإن صفير الصواريخ وأزيز الطائرات ربما يدفعان طرفي المواجهة إلى نوع من البحث مع الذات عما إذا كان ما جرى بات نوعا من الرياضات الوطنية التي تمارس العنف بطريقة دورية للتخلص من عقد تاريخية لم تنجح عقود في التخلص منها؟
المدارس سوف تتعدد على أي الأحوال، ولكن ما يهمنا جماعتنا في فلسطين، وخاصة هؤلاء المقيمين بغزة، وكيف ينظرون إلى الحرب التي انتهت توا. بعض مما سوف يجري نعرفه بالفعل، فقضية إعمار غزة بات لها صفة دورية، وسوف تجد بين العرب وفي العالم وربما أيضا من الفلسطينيين من سيكون على استعداد للمساهمة في إعادة البناء بشكل أو بآخر، إيمانا بالقضية العادلة، أو حتى لإبراء الذمة. ولكن المعضلة الباقية هي أن «القضية الفلسطينية» بقيت على حالها، فإسرائيل تحتل الأرض التي تحتلها، ولديها القدرة لكي تحتل ما تحرر منها في أيام سابقة. أما الجديد في الأمر فهو أن القضية باتت في الحقيقة قضيتين: الأولى معروفة منذ مائة عام وأكثر بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ أما الثانية فسوف نحتار في توصيفها، لأنها في جوهرها تجري بين الفلسطينيين والفلسطينيين الآخرين. فالحرب التي انتهت توا هذا الأسبوع أو في الأسبوع الذي يليه لم تكن بين العرب والإسرائيليين، ولا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإنما كانت بين منظمة حماس ومن والاها من جماعات «إسلامية» أخرى، وإسرائيل. انكمش الصراع فجأة حتى بات بين منظمة ومنظمات ودولة معتدية واستعمارية وقل ما شئت، فالحرب لم تجر بين منظمة التحرير الفلسطينية – الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني – والدولة العبرية، ولا جرت بين «السلطة الوطنية الفلسطينية» ومقرها رام الله وإسرائيل. فكل الأطراف الفلسطينية الرسمية الممثلة للشعب الفلسطيني بقيت مستبعدة من «القرار الفلسطيني»، لأن المنظمات اتخذت القرار سواء بالقصف أو استخدام الصواريخ، أو خطف ثلاثة من الإسرائيليين وقتلهم وبعدهم إدارة المعركة الدبلوماسية والتفاوضية. من المؤكد أن الرئيس محمود عباس وحكومته في «الوحدة الوطنية» بذلت جهودا فائقة من أجل توعية المجتمع الدولي بالمأساة الجارية في غزة، وكان اقتراح فرض الحماية الدولية على فلسطين اقتراحا لا بأس به، لولا أنه لم يلق استجابة من المجتمع الدولي، الذي لم يكن يعرف أن وجود الوحدة الوطنية الفلسطينية لا تعني وحدة سياسات الأمن القومي الفلسطيني، ما دامت كل منظمة مجاهدة وجهادية لها الحق في اتباع السياسات التي تراها وفي الوقت الذي تراه.
هنا، نصل إلى عقدة العقد على الناحية الفلسطينية، ولها جذور تاريخية عميقة، وهي أن الفلسطينيين لم ينجحوا أبدا في ترجمة حركتهم الوطنية من أجل الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، إلى تمثيل سياسي موحد يضع استراتيجية تجمع بين الأدوات الدبلوماسية والإعلامية والعسكرية إذا لزم الأمر، ويحشد الشعب الفلسطيني حولها من خلال مؤسسات تجعل هذه الدولة قائمة حتى قبل أن تصل إلى استقلالها. هكذا فعلت إسرائيل في سباقها مع الفلسطينيين عندما أقامت الجامعة العبرية، والهستدروت، والوكالة اليهودية، والكيبوتزات، والهجاناة، وغيره من بنوك وشركات تأمين، وأحزاب سياسية وجماعات فكرية وثقافية. في مصر، جرى مثل هذا الأمر ما بين ولاية محمد علي وقيام المملكة المصرية، وما بين هذه وزوال الاحتلال البريطاني. في مثل هذه الحالات، تقوم الدولة فعليا على الأرض، ويصبح إعلانها نوعا من تحصيل الحاصل، وإذا لزم النضال فإنه يكون من خلال قيادة يكون لها وحدها الحق في جر الشعب إلى ساحة الكفاح. الاستقلال ليس عملية إيذاء للخصوم المحتلين، ولكنه عملية إشهار لحقيقة الدولة الوطنية ومعدنها. حماس ليست على استعداد للولوج في مثل هذا التعقيد، وهي تقيم حكومة وحدة وطنية بالاسم، أما في الجوهر فإن غزة هي ولاية مستقلة في دولة لم تقم بعد. وهي يمكنها أن تخوض كل الحروب، ولكن اللوم سوف يقع دائما على السلطة الوطنية، وإذا لم يكن ذلك ممكنا لسبب أو آخر، فإن اللوم يمكن أن يقع على مصر أو على كل العرب، فطالما أطلقت حماس والجهاد الصواريخ، فإنه على الآخرين استكمال المهمة التي لم يخبرهم بها أحد من قبل!
الشرق الاوسط السعودية