الآن، أصبحت ستمائة عام من تاريخ الشرق الأوسط بصدد التمزق في نهاية المطاف. فقد انهارت البنى السياسية التي أسسها الأتراك العثمانيون في القرن السادس عشر، خاصة في العراق وسورية. وأمست مظاهر التأثير الاستعماري والطرق الغربية التي كانت تتسيد المجتمعات المسلمة ذات مرة تنحصر بشكل رئيسي في الأفراد. وتتلقى القوة الأميركية التي أعقبت البنى الاستعمارية القديمة شتى الضربات من الحروب والإخفاقات الدبلوماسية، وحالات الجيشان الإقليمي التي أصبحت تربك حتى صناع السياسة الحكماء.
الآن يجري تفكيك الشرق الأوسط على يد المتعصبين الذين يستعبدون النساء ويربطون عقول الرجال بقانون أخلاق كابوسي، وبفعل الفساد المرافق وعدم كفاءة الحكام والحكومات الذين كانت واشنطن تفضلهم تاريخياً، وبفعل المعركة القديمة الجديدة بين المسلمين السنة والشيعة.
في الأثناء، لا توجد سياسة حاذقة تستطيع قلب وجهة هذا المد المرعب. وليس ثمة طريقة لاستشراف مستقبل ما يزال يعد بالمزيد من الاضطراب. وسوف تستمر هذه الفترة من الكفاح المرير بين المسلمين للعديد من الأعوام المقبلة بحيث تتجاوز القدرة العسكرية والاقتصادية والقوة الدبلوماسية على التأثير فيها. وطيلة هذا الجيشان، ستظل لدى الأميركيين مخاوف إزاء معاناة المدنيين، لكن الذي ربما يحجب في ظلاله هذا المحفز هو الخوف المحتمل من أن يقدم الإرهابيون المسلمون على تصدير جهادهم إلى الأراضي الغربية التي يبغضونها بالقدر نفسه الذي يبغضون به بعضاً من إخوانهم المسلمين.
لعل بداية الحكمة عند الأميركيين تكمن في إدراك أن العالم العربي يسير متعثراً في زلزال، وأنه ما من سياسة تستطيع وقفه، ناهيك عن احتوائه. وفي هذه المرحلة، تستطيع واشنطن التحضير لمواجهة التوابع وحسب. ويكمن الحافز الأميركي الطبيعي في السعي إلى العثور على حلول، وانتهاج سياسات تستطيع الصمود في وجه هذه الاضطرابات. لكنه يجب على الولايات المتحدة، ولأعوام مقبلة، أن تخفض من مستوى تأملاتها من العثور على حلول إلى اتخاذ إجراءات دفاعية وأكثر محدودية، وفي اتجاه يستطيع أن يوقف التهديد الجهادي ببساطة. وحتى عندئذٍ، يجب على الأميركيين توقع المزيد من الانتصارات الجهادية.
مع ذلك، ومع الوقت، ستستطيع واشنطن أن تقيم ترتيبات تعاونية جديدة مع القليل من الدول المستقرة والميالة إلى الاستقرار بشكل مشابه للاستقرار أو المعرضة للتهديد -كردستان وإسرائيل والأردن وتركيا، وعلى نحو مدهش: إيران أيضاً. وإذا تم تشجيع الحكام المصريين الجدد على إضفاء الاستقرار والديمقراطية على أرضهم القديمة بعض الشيء، فسيكون المصريون أيضاً مفتاحاً للوصول إلى مستقبل أفضل. من النظرة الأولى، وحتى الثانية، قد يبدو هذا الجمع من الشركاء مستحيلاً. فعلى السطح، تبدو إسرائيل بالتأكيد متناقضة مع هذا الجمع، لكنها تستطيع من الناحية الفعلية النهوض بالعديد من الأدوار المهمة. أولاً وفي المقدمة، تستطيع إسرائيل تعزيز الاقتصاد المصري من خلال التجارة المتزايدة ومساعدة الحكومة في تقديم السلع والخدمات التي يطالب بها المواطنون القلقون. ولعل من مصلحة إسرائيل المساعدة على إضفاء الاستقرار على مصر وجعلها مرة أخرى موئلاً رئيسياً في العالم العربي. وتستطيع إسرائيل النهوض بالدور نفسه بالنسبة للأردن. كما تشكل إسرائيل مزوداً مهماً للأسلحة والاستخبارات بالنسبة للأكراد. وبينما لا تشكل كردستان دولة مكتملة، وقد لا تصبح مستقلة تماماً، لكنها تعد في هذه الأوقات جزيرة استقرار مهمة. وتستطيع قوات الباشميرغا الحفاظ على حقول النفط الحساسة في كركوك في منأى عن أيدي الجهاديين. وسيتوجب عليها، عاجلاً لا آجلاً، أن تنضم إلى المعركة العامة ضد الجهاديين في عموم المنطقة.
من الطبيعي أن تكون إيران أكثر شريك محتمل إثارة للدهشة. وستكون المعارضة السياسية شرسة في كلا البلدين. سوف يتوحش الملالي والمؤيدون لإسرائيل والمبشرون ضد محور الشر. لكنه يجب على هؤلاء الصقور الأميركيين فوق كل شيء أن يعرفوا أن القادة الشيعة في إيران يشعرون بشكل معمق بأنهم مهددون من جانب الجهاديين السنة في الجوار العراقي، ربما أكثر من الولايات المتحدة نفسها. كما تشكل إيران أكثر تواجد مستقر من بين البلدان الإسلامية الرئيسية. ومع ذلك، يبقى شعور الأميركيين حيال النظام الثيوقراطي في طهران والملالي الحاكمين أنهم لا يواجهون أي احتمال لقيام تحديات داخلية، وأن الملالي لن يذهبون إلى أي مكان.
تفيد الأخبار الجيدة بأن أعداداً ضخمة من الإيرانيين هم من المؤيدين لأميركا. ولعلنا نسينا أولئك الإيرانيين الذين تدفقوا إلى الشوارع تعاطفاً مع أميركا بعد العام 11/9. كما أننا نسينا المقاتلين الإيرانيين الذين أمنوا غربي أفغانستان حتى العام 2003. وما نزال نتجاهل الانتخابات الحرة نسبياً التي جرت في إيران -تلك الانتخابات التي جلبت أمثال حسن روحاني إلى سدة الرئاسة. وتستطيع هذه العوامل أن تجعل من طهران شريكاً مهماً ضد الخطر الجهادي الواضح والحاضر. ومن الممكن تعزيز العوامل الإيجابية الممكنة إذا استطاعت واشنطن وطهران التوصل إلى صفقة لخفض التهديد النووي الإيراني المحتمل في مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية عنها. لكن، وبالقدر نفسه الذي تظل فيه هذه الصفقة مرغوبة لتشكيل إعادة اصطفاف استراتيجي، فإنها ليست شرطاً مسبقاً لتأسيس شراكة ضد الجهاديين. وبينما يجب عدم إسقاط مخاطر هذه المحاولة من الاعتبار، فإنه يجب عدم استبعاد مزايا التغير التاريخي في المشهد الاستراتيجي أيضاً. وسوف يكون إحجام الطرفين عن المحاولة ضرباً من الحماقة.
من الصعوبة بمكان تشخيص الكيفية التي يمكن بها لدول الخليج الغنية بالنفط أن تتواءم مع الحملة المعادية للجهاديين. فهي كلها تبدي قلقاً، أكثر أو أقل، من إيران أكثر مما تبديه من المتطرفين السنة. بل لقد دعم العديد منها أولئك المتطرفين سراً. ولعل الشيء الرئيسي أنجزته الولايات المتحدة في هذه المنطقة هو أن قادة الدول الخليجية ما يزالون يرون في الأميركيين الحماة النهائيين لهم ضد إيران وضد الجهاديين على حد سواء. وبينما يتصاعد التهديد الجهادي، فإن دور الحامي هذا ينبغي أن يوفر نفوذاً إضافياً لواشنطن على شبه الجزيرة العربية.
يخشى قادة الخليج من أن يفضي التعاون بين الولايات المتحدة وإيران إلى منح مزيد من القوة لإيران الشيعية، وهي مخاوف مفهومة، لكنها مفرطة ومبالغ فيها. فهم يفوتون احتمال أن يكون ذلك عندما ينقشع الغبار بعد أعوام مقبلة ضد مصلحة الشيعة. فلأول مرة، توفرت لشيعة العراق الفرصة لأن يكونوا القوة الرئيسية في عراق موحد، لكنهم نسفوها. وسيكونون محظوظين إذا احتفظوا بكامل الجزء الجنوبي من البلد أو إن شكلوا جزءاً من كنفدرالية. وراهناً، يحكم العلويون السوريون مساحة الثلث فقط من عالمهم السوري السابق. ولن يستطيعوا أبداً ممارسة سيطرة الدولة على كل البلد كما كانوا في السابق. وإذا كانت طهران ذكية، فإن هدفها الرئيسي سيكون ضمان أن لا يخسر الشيعة العراقيون والسوريون المزيد من الأرضية، وأن يستطيعوا حماية أنفسهم. وبدلاً من إبداء القلق من إيران، قد تحاول الدول الخليجية المقاربة الجديدة وفعل شيء جديد وبناء مثل المساعدة في التنمية الاقتصادية.
فوق كل شيء، يجب أن يظل الأمر الحاضر في الذهن في المدى المنظور هو الزلزال نفسه. فمن مركزه في قلب الأرض العربية الأم في العراق وسورية، نجده يمتد بسرعة إلى أفريقيا المسلمة –إلى ليبيا ونيجيريا ومالي والصومال- وربما حتى إلى الجزائر. وما تزال مصر تهتز بفعل المواجهة بين الإخوان المسلمين المنتخبة ديمقراطياً والحكومة الجديدة المسيطر عليها عسكرياً. ومن الممكن أن يذهب السلام المراوغ دائماً بين إسرائيل والفلسطينيين ليتأجل إلى عقد أو أكثر على ضوء فشل مباحثات السلام الأخيرة التي قادتها الولايات المتحدة، وتفجر العنف الأخير في الضفة الغربية وغزة. ولا توجد أي إرادة سياسية أو دعم للسلام عند الجانبين. وربما يكون جون كيري قد أصيب بالإحباط من أي مفاوضات سلام عقيمة أخرى.
أخيراً، وإلى الشرق، تشكل أفغانستان وباكستان التهديدات الاعتيادية غير المستقرة نفسها. ما تزال طالبان بعيدة عن أن تكون قد انتهت في أفغانستان، وقد تثبت أنها ستكون قادرة مثل الجهاديين في سورية والعراق متى ما غادر الأميركيون. وتستمر المجموعات الإرهابية السنية في باكستان في تهديد جنوب شرق آسيا كذلك.
لن يعود الشرق الأوسط أبداً مثلما كان. فقد أصبح المألوف والسيئ والبشع، والموثوق وغير الموثوق، كلها يبتلعها الزلزال نفسه. لم يعد بالوسع ضمان المصالح الغربية والأميركية والسلامة من خلال الوسائل التقليدية نفسها. يجب على القادة الأميركيين محاولة صناعة طاقم جديد من العلاقات العاملة، من أجل مواكبة هذا العالم الإسلامي المتفجر والخطير.
ليزلي غيلب – (ذا ديلي بيست)