في الوقت الذي استكملت فيه الأحزاب والقوى “الإسرائيلية” انتظامها في معسكرات ثلاثة، عشية انتخابات الكنيست التي ستجرى في الثاني والعشرين من الجاري، يضم الأول قوى اليمين التقليدي: “الليكود” و”إسرائيل بيتنا”، ويتشكل الثاني من أحزاب وحركات اليمين الديني الذي فك ارتباطه مع اليمين الصهيوني: “البيت اليهودي” و”شاس” و”يهودوت هتوراه” وربما “عوتسما ليسرائيل”، ويصطف في الثالث كل من “حزب العمل” و”هناك مستقبل” بزعامة يائير لبيد، و”حركة” تسيبي ليفني، تقف الأحزاب العربية (وحركة ميرتس) على هامش هذه الهندسة الانتخابية التي يرجح المحللون، كما استطلاعات الرأي المختلفة أن تخوض معركة مضجرة وعصية على الإثارة، كونها ستفضي، وعلى رغم تلال القضايا المثارة، إلى أكثرية يمينية صهيونية – دينية في الكنيست، وستقود إلى ائتلاف حكومي، مستنسخ عن الحالي، برئاسة بنيامين نتنياهو .
ومع أن أصحاب الأرض الفعليين الذين تطلق عليهم سلطات الاحتلال اسم “عرب إسرائيل يشكلون أكثر من 20 في المئة من مجموع سكان الكيان، ويستطيعون ، لو اقترعوا كلهم، إيصال 20 مندوباً عنهم إلى الكنيست، إلا أن ثمة عزوفاً واسعاً عن المشاركة في العملية السياسية “الإسرائيلية” التي اتخذت ، ومنذ احتلال البلاد عام ،1948 منحى عدائياً تجاه فلسطينيي ،1948 واكتفت بمنحهم “مواطنة” خالية من المعنى ، باستثناء أنها كانت تحول دون إبعادهم إلى خارج حدود “الدولة” . وتكفي الإشارة إلى أن نحو 50 في المئة فقط من فلسطينيي 48 ذهبوا إلى صناديق الاقتراع في انتخابات الكنيست الأخيرة ،2009 ولولا الجهود المكثفة التي بذلت في الساعات الأخيرة ليوم الانتخابات ، وارتفاع منسوب الحملة الصهيونية الشرسة المناهضة للفلسطينيين لما وصلت المعدلات إلى هذه النسبة التي شكلت النسبة الضرورية لعبور القوائم العربية عتبة الكنيست .
يمكن ، بطبيعة الحال ، رصد رزمة ضخمة من الأسباب التي تقف خلف العزوف الفلسطيني عن المشاركة الفاعلة في انتخابات الكنيست ، التي تستند إلى حقيقة وضعهم القانوني ك “مواطنين” فى دولة مناقضة لبنيتهم قامت على أنقاض شعبهم ، وتمثل النقيض لطموحاتهم الجماعية، فضلاً عن عدم إمكانية (وقدرة) الأحزاب والقوى العربية على صياغة خطاب سياسي جديد بمقدوره إقناع الآخرين فى الساحة “الإسرائيلية” بضرورة تعديل البنية القانونية والتشريعية للدولة ، وحل التناقض بين يهوديتها وديمقراطيتها . غير أن الأبرز بين هذه العوامل والأسباب يتمحور ، راهناً ، حول تنامي الإحساس لدى الفلسطينيين بوجودهم على هامش الجهاز السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الدولة العبرية ، وبعدم قدرتهم على المشاركة الكاملة في العمل السياسي ، وامتناع أوساط قومية أو إسلامية أيديولوجيا عن المشاركة في اللعبة الديمقراطية “الإسرائيلية” غير المنصفة ، باعتبار الدولة نفسها غير شرعية ، ونشوء شبكة من المنظمات الاجتماعية التي حققت للمواطن العربي أكثر مما حققته الأحزاب وتمثيلها البرلماني العقيم الذي لم يستطع التأثير في القرار السياسي في “إسرائيل” أو مجتمع الأكثرية اليهودي ، فضلاً عن الإحباط من إقامة كتلة عربية موحدة ، وفتور الدعاية الانتخابية منذ الثمانينات ، وتشابه أطروحات الأحزاب العربية .
في المقابل ، ثمة مفارقة إضافية لافتة لها علاقة بموقف ما يسمى قوى اليسار والوسط “الإسرائيلي” من الأحزاب العربية التي تصنَف ، وفقاً لطبيعتها القومية والاجتماعية وأهدافها ، ك “يسار اجتماعي” .
إذ يبدو جلياً أن هذه القوى ، الضعيفة أصلاً، وإن كانت تقدم خطاباً مخادعاً حيال تحسين وضع الفلسطينيين في الكيان، وأخذ مطالبهم واحتياجاتهم في الاعتبار ، أملاً في كسب المزيد من الأصوات ، تحاول الحفاظ على بُعد آمن من هذه الأحزاب بهدف رفع منسوب مخزونها الانتخابي “اليهودي”، ما يحولها ، فعلياً، إلى الوجه الآخر لقوى اليمين التي لا تتورع عن الدعوة إلى تكريس الظلم التاريخي الذي لحق بالفلسطينيين لا بل وطردهم خارج البلاد . أما في الضفة الأخرى ، وتحت ظلال عدم القدرة على إحداث تغيير حقيقي لتحسين وضع ناخبيها ورفع المظالم الاقتصادية والاجتماعية عنهم، لا يبقى أمام الأحزاب العربية سوى التأكيد على عروبتها وفلسطينيتها ، وإعادة إنتاج الشعارات القومية ، ومراكمة العجز في إطار الواقع والشروط “الإسرائيلية” التي تضع الرتوش الأخيرة على دولة الأبارتايد “اليهودية” .
” الخليج ” الاماراتية .