المواجهات المزمنة بين أنقرة وأربيل حتى الأمس القريب تذكرنا بطرفة «الإخوة الأعداء» في تركيا تمل ودورسون، حيث حكم عليهما بالإعدام بسبب اشتراكهما في جناية قتل، ولما سأل الجلاد تمل عن رغبته الأخيرة وهو في الطريق إلى حبل المشنقة، قال «أن أقبل يد والدتي»، وعندما سأل دورسون هذه المرة عن أمنيته هو قال «ألا يقبل تمل يد والدته».
سخرية القدر أن تغادر باخرة نفط شمال العراق ميناء جيهان التركي قبل أيام للبحث عن مشترٍ، وأن تكون إسرائيل هي من يقبل بهذه الصفقة على أصوات الرصاص والقنابل المدوية في الموصل في اشتباكات سنية شيعية.
وداود أوغلو، الذي كان يردد قبل أسبوعين أن البعض يحاول تقديم العراق وكأنه يعاني من الفوضى، غير رأيه إلى درجة يعلن فيها أن «الأزمة تقف اليوم على أبوابنا».
قبل أيام وافق مجلس القضاء الأعلى التركي على طلب تأسيس حزب سياسي جديد يحمل اسم «الحزب الديمقراطي الكردستاني التركي» سيكون مقربا ومنفتحا على حزب مسعود بارزاني الذي يحمل اسما وعلما مشابها.
لم يكن أحد من الأكراد في تركيا يحلم حتى أن تأخذ كلمة «كردستان» مكانها بهذه السرعة وهذه الطريقة في القاموس السياسي التركي الذي حظر وعاقب على استخدامها حتى الأمس القريب.
قبل أيام أيضا، أعلن نائب رئيس حزب العدالة والتنمية التركي حسين شليك أن كردستان الدولة في حال الإعلان عنها «ستكون جارة وشقيقة، لأننا نتمسك بحماية علاقاتنا بإقليم شمال العراق». الوزير عمر شليك، وهو مساعد مقرب لإردوغان، قال كلاما مماثلا في الموضوع السوري ومسار الأمور هناك عندما سئل عن موقف تركيا من سيناريو الفيدرالية السورية.. «فالسوريون هم الذين يختارون وحدهم شكل النظام الدستوري والسياسي في بلادهم، وهي مسألة تعنيهم بالدرجة الأولى».
مشروع قانون الإصلاحات الأخيرة التي حملها إردوغان إلى البرلمان هو مؤشر آخر حول استعداد أنقرة لاعتماد لغة وأسلوب جديدين في التعامل مع الملف الكردي. خطة تحرك تقوم على ست نقاط أهمها إطلاق يد الحكومة في الحوار مع أكرادها، وتأمين الغطاء القانوني والحصانة اللازمة للذين سيشاركون في المباحثات، وتسهيل عودة مئات المقاتلين إلى منازلهم دون ملاحقة قانونية، واعتماد أسلوب التفاوض المباشر والرسمي مع أوجلان عبر إشراك شخصيات سياسية حكومية وقيادات كردية تمثل حزب الشعب الديمقراطي البديل لحزب السلام والديمقراطية.
«العدالة والتنمية» يريد تأمين عودة المئات إلى منازلهم قبل عيد الأضحى، ويريد أن تكون الخطوة ناجحة هذه المرة بعكس المحاولة الأولى التي تمت قبل 4 سنوات وفشلت قبل أن تبدأ. حكومة إردوغان تريد إقرار هذه الرزمة أيضا قبل ذهاب البرلمان التركي إلى عطلته الصيفية، وقبل انطلاق الحملات الانتخابية في معركة الرئاسة، وربما الهدف الانتخابي لإردوغان المرشح الأوفر حظا في هذه المعركة كسب أصوات الناخب الكردي من خلال إقرار لغة سياسية إصلاحية دستورية جديدة في التعامل مع المسالة الكردية في تركيا.
زيارة رئيس وزراء إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني الأخيرة إلى أنقرة بدعوة من إردوغان لم تتطرق فقط إلى بحث التطورات في العراق والسيناريوهات المحتملة وخيارات إعلان الدولة الكردية المستقلة على ضوء المستجدات الأمنية والسياسية هناك، بل مطالبة أنقرة لحكومة أربيل بدعم الحوار الجديد الذي سيبدأ في القضية الكردية عبر التنسيق أو الضغط على قنديل لعدم الاعتراض أو محاولة توتير الأجواء، خصوصا أن تركيا ذاهبة بعد 6 أسابيع إلى صناديق الانتخابات الرئاسية. كلام جميل بييق، القيادي الأبرز في «العمال الكردستاني»، الأخير الذي يخفف فيه من شروط دعم المسار الجديد إلى الإفراج عن عبد الله أوجلان وإطلاق عجلة المفاوضات بأسرع ما يكون، رسالة من قنديل أنها لن تقف في وجه هذا المسار الجديد.
صدفة هي ربما لا أكثر أن يعلن تاريخ 28 يونيو (حزيران) 1999 موعد إصدار الحكم النهائي بالسجن المؤبد لأوجلان، وفي 28 يونيو 2014 يصدر قرار شبه رسمي بقبول أوجلان نفسه المفاوض الأول في ملف القضية الكردية.
التحول الجذري في مواقف أنقرة حيال الملف الكردي ببعده الإقليمي سببه ليس فقط قلقها من احتمال أن تتم مسألة إعادة رسم الخرائط التي تناقش بين واشنطن وطهران على حسابها، بل قناعتها أن التطورات المتلاحقة في المنطقة لا يمكن إلا أن تقود إلى حالة كردية جديدة لا بد من قبولها والتأقلم معها.
ما يقلق الأتراك هو ارتدادات التطورات السورية والعراقية على الداخل التركي نفسه، بسبب التصلب في التعامل مع نظام الأسد وحكومة المالكي. لكن ما يقلقهم أكثر توحد المواقف الأميركية الإيرانية في الدفاع عن وحدة العراق وسوريا بعكس السياسات والأساليب التي اعتمدوها حتى اليوم.
البنية الداخلية لهذه الدول لن تكون وحدها عرضة للتغيير في عمليات القسمة والطرح والجمع، بل حدود هذه البلدان مع دول مجاورة ستأخذ مكانها أيضا على طاولة جدول الضرب في المرحلة المقبلة، وهذا أيضا سبب آخر يقلق أنقرة ويدفعها إلى مراجعة السياسات.
يبدو أن محاولة محاصرة أنقرة من الداخل والخارج في الآونة الأخيرة هي التي دفعتها لإخراج الأرنب من القبعة بهذه الطريقة.
البعض يصف ما يجري بأنه حلف تركي كردي يبرز إلى العلن مقابل حلف آخر بدأ يأخذ مكانه على الخارطة الإقليمية يتجاهل مصالح الطرفين ويصر على بناء المعادلات ورسم الخرائط على حسابهما.
حروب المفاجآت ستتواصل في الأسابيع المقبلة بين إردوغان وحلفائه الأكراد، وبين تحالفات جديدة بدأت تظهر إلى العلن، كما فهمنا من رسائل السيستاني وكيري والمالكي والأسد وحتى جماعة العلامة فتح الله غولان أيضا.
قوميون أتراك متشددون يحذرون إردوغان من السقوط في فخ سيناريو التحاق أكراد شمال العراق في كونفيدرالية منفتحة على تركيا، ثم يتراجعون عن هذا الخيار عندما تحين الفرصة، وبعد توسيع رقعة التمدد الكردي في سوريا وتركيا والعراق.
هي في جميع الأحوال مغامرة مكلفة على تركيا في حال وصولها إلى الطريق المسدود. قيادات تركية تقول إن «العدالة والتنمية» الذي يتحدث عن بناء تركيا الجديدة لا بد أن يأخذ مطالب الأكراد ودورهم في هذا المشروع، لكن أوجلان وأنصاره لا يمكنهم الانتظار إلى ما لا نهاية بعد هذه الساعة.
عن الشرق الاوسط السعودية