تعكف الهيئات الفلسطينية المعنية حالياً على بحث البدائل التي يمكن للقيادة الفلسطينية أن تلجأ اليها اذا ما انتهت المحادثات الفلسطينية -الإسرائيلية من دون أن يحقق الفلسطينيون أي هدف من أهدافهم الوطنية . ويرجح البعض في هذه الهيئات ألا تسفر المحادثات عن فشل كامل لها بل عن مشروع اتفاق إطار تضعه الإدارة الأمريكية أو بالأحرى جون كيري، وزير الخارجية الأمريكية، ومارتن أنديك، موفد كيري إلى المفاوضات ورئيس الطاقم الأمريكي الذي يتابعها .
ورغم أن معظم المقترحات والأفكار التي يتضمنها مشروع “اتفاق – إطار” مثل مساواة اللاجئين الفلسطينيين باللاجئين اليهود من البلاد العربية الى فلسطين، هي ذات منشأ إسرائيلي، فإنه من غير المتوقع أن تبارك حكومة نتنياهو المشروع فور صدوره خلال الشهر الحالي أو المقبل . بل الأرجح أن تؤخر إعلان موقفها منه إلى موعد آخر بانتظار معالجة إسرائيلية – أمريكية لردود الفعل الأوروبية على السياسة السلبية التي تتبعها حكومة نتنياهو تجاه “جهود السلام” وتجاه قيام دولتين في فلسطين .
لقد استخدم الأوروبيون أسلوب الجزرة والعصا مع الإسرائيليين من جهة تلويح الأوروبيين بأنه إذا تجاوب الإسرائيليون مع جهود السلام فإن بوابة الاتحاد الأوروبي سوف تنفتح لكي تدخله إسرائيل فتحقق أعظم الثمار نتيجة ذلك . كذلك لوح الأوروبيون بأنهم سوف يتغاضون عن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للجولان إذا وافقت حكومة نتنياهو على المبادرة الأمريكية . من جهة أخرى أعلن لارس فابورغ لارسن، سفير الاتحاد الأوروبي إلى إسرائيل، أنه إذا فشلت المحادثات الإسرائيلية – الفلسطينية، وإذا تسبب استمرار سياسة إسرائيل الاستيطانية بهذا الفشل، فإنها ستتحمل هي “مسؤوليته” . عندها لمح مسؤولون أوروبيون إلى أن الاتحاد الأوروبي قد يفرض على إسرائيل عقوبات اقتصادية، ولم يستبعد البعض من هؤلاء أن تشابه هذه العقوبات تلك التي فرضت على دولة الأبارتايد في جنوب إفريقيا فكانت من أسباب انهيارها .
أكسبت التهديدات الأوروبية بعض المصداقية بعد أن حذر وزير المال الإسرائيلي يئير لبيد الحكومة الإسرائيلية من أنه إذا نفذ الاتحاد الأوروبي تهديده فإن إسرائيل سوف تتكبد خسائر تصل قيمتها إلى 6 مليارات دولار . ولا ريب أن هذه الضغوط الأوروبية تثير التفاؤل في الأوساط الفلسطينية والعربية والدولية المؤيدة لقضية فلسطين . ولكن هل يمكن الركون إلى هذه الضغوط؟ وإذا نفذ الاتحاد الأوروبي وعيده حول العقوبات الاقتصادية فهل تكون هذه العقوبات، فعلاً، شبيهة بالتي نفذت ضد حكومة الأبارتايد؟
الأرجح ألا تصل الضغوط الاقتصادية التي يمارسها الاتحاد الأوروبي على إسرائيل إلى الحد الذي يشل اقتصادها ويكبد الإسرائيليين خسائر فادحة، بل أن تتسم العقوبات بالطابع الرمزي . إن هذا النوع من العقوبات يدل على رفض الاتحاد الأوروبي للاستيطان الإسرائيلي، “من حيث المبدأ”، ولكن لا يحول، عملياً، دون استمرار بناء المستوطنات . الشق الأخير من المعادلة، أي امتناع أوروبا عن عرقلة الاستيطان هي الهدية التي ستقدمها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى نتنياهو خلال المشاورات المشتركة التي ستنعقد بينهما في إسرائيل في الرابع والخامس والعشرين من الشهر الحالي . ومن الأرجح أنه عندما توقع وزير الاقتصاد الإسرائيلي نفتالي بينيت من “أصدقاء إسرائيل في العالم الوقوف ضد حملة المقاطعة اللاسامية” فإنه يعني زعماء دوليين
مثل ميركل . إذا صحت هذه التوقعات، فإن الاتحاد الأوروبي، بتأثير من القاطرة الألمانية، سوف يخفض من سقف العقوبات التي يلوح بتطبيقها ضد إسرائيل .
إذا تمكن الإسرائيليون من فرملة المقاطعة الأوروبية، فإن المسؤولين الفلسطينيين لن يتفاجأوا كثيراً بهذا
الموقف . فعند البحث في البدائل عن توقف المفاوضات، وعندما دعا البعض منهم إلى عدم التجاوب مع مساعي تمديدها، لم يظهر عليهم أنهم يعولون كثيراً على ضغوط الاتحاد الأوروبي من أجل تحقيق المطالب الفلسطينية . أكثرهم كان يفتش عن الحل بعيداً عن هذه الضغوط . البعض منهم لوح بالعودة إلى حمل السلاح ضد الاحتلال . أما الأكثرية من القادة الفلسطينيين فقد دعت للذهاب إلى نيويورك، أي إلى الأمم المتحدة وإلى العمل على الانضمام إلى أكبر عدد من المنظمات الدولية تأكيداً على مصداقية المشروع الفلسطيني .
لقد خاض الفلسطينيون تجارب ناجحة على هذا الصعيد . وعندما طالبوا بأن تكون للكيان الفلسطيني صفة مراقب في الأمم المتحدة، تحولت المطالبة إلى حملة سياسية ناجحة ضد المشروع الاسرائيلي، ولمصلحة المطلب الوطني الفلسطيني . ومن المتوقع أن يتحول كل طلب تقدمه القيادة الفلسطينية لانضمام فلسطين إلى منظمة من منظمات الأمم المتحدة أو من المنظمات الدولية الأخرى، إلى معركة سياسية مفيدة . في مثل هذه المعارك تتسلط الأنظار على هشاشة المشروع الإسرائيلي، ليس من الناحية العسكرية والمادية حيث تتمتع إسرائيل هنا بالتفوق على سائر المعادين لها، ولكن من الناحية الأخلاقية والمعنوية والمبدئية . هذا الاحتمال هو حلم مرعب يثير قلق الإسرائيليين . إنه يثير قلقهم لأنه يهدد، بالفعل، بنزع الشرعية التدريجي عن إسرائيل .
ولكن فيما يمثل خوض المعارك الدبلوماسية ضد إسرائيل في أروقة الأمم المتحدة خياراً مفيداً، فإنه ينبغي ألا يكون بديلاً عن خطوات مهمة أخرى تندرج في إطار المعارك الناجحة البعيدة الأمد على هذا الصعيد .
هذه المعارك تخاض في فلسطين نفسها، وأهمها اليوم العمل على تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية . فعلى هذا الصعيد تمر الحركة الوطنية الفلسطينية اليوم بانسداد تاريخي قل أن مرت به في تاريخها الطويل . ففي الماضي دأبت الفصائل الفلسطينية على تقاسم قيادة الحركة الوطنية على أساس نظام “الكوتا” . وكان هذا النظام أفضل، نسبياً، من تفرد فصيل واحد بفرض سلطته وبالقوة على الآخرين . اليوم لا تتطبق “الكوتا” كنظام سياسي وتنظيمي فحسب، ولكنها تطبق على أساس جغرافي، وهذا يتحول بدوره إلى انقسام كارثي داخل الجسم الفلسطيني . إن تطبيق الكوتا على هذا النحو يسهل تأبيدها ويسلب الفلسطينيين القدرة على التعبير عن رأيهم وعن خياراتهم، ويسحب منهم هم ومن “البيت الفلسطيني” الشرعية المطلوبة . إذا لم تتمكن الفصائل الفلسطينية من الاتفاق على كافة المبادئ الرئيسية وعلى استراتيجية بديلة عن التفاوض مع إسرائيل، فلعلها تتمكن من التفاهم على إحياء العملية الديمقراطية في فلسطين . وإحياء هذه العملية يعني بالدرجة الأولى إجراء انتخابات نيابية جديدة تعيد الروح إلى الحياة البرلمانية الفلسطينية . إن هذا الإجراء سوف يفسح المجال أمام الفلسطينيين لكي يختاروا ممثليهم وأن يختاروا الجماعات التي تستطيع ترجمة الإرادة الفلسطينية إلى سياسة ملموسة . لقد كان المجلس الوطني المنتخب مطلباً دائماً للحركة الوطنية الفلسطينية، فهل من الجائز التغاضي عن هذا المطلب عندما تتوفر شروط تحقيقه حتى ولو تحت الاحتلال؟