بعد ستة دواوين شعرية هي حصيلة التجربة الشعرية المتفردة للشاعر الفلسطيني الكبير عبد الناصر صالح الذي أضفى إبداعا جديدا في المشهد الثقافي والفكري الفلسطيني ، مواكبا تجارب وإرهاصات كبار الشعراء في فلسطين وفي العالم العربي ، مقدما نموذجا لشاعر ناجح ، لشاعر مجدد وقادر على تقديم الجديد دائما بين كل قصيدة وقصيدة ، فليس المهم أن يكتب الأديب أو الشاعر ولكن الأهم ماذا يكتب وكيف يكتب وهذا ينطبق على شاعرنا الصديق ، المقّل في كتاباته والغنّي بموضوعاته وتجاربه ، يطل علينا شاعرنا الكبير بديوان جديد تحت عنوان ” مدائن الحضور والغياب ” والجميل في الموضوع بان القصائد التي تضمنها الديوان كنا قد طالعناها أولا بأول من خلال المجلات والصفحات الثقافية والأدبية ، وكنا إلى حد ما من الشهود على ولادتها ، ويسجل للشاعر صالح تواصله وتألقه الدائم ومحاولاته الدائمة لتتجدد وتقديم شكل ومضمون جديد للقصيدة الفلسطينية ، له إسهاماته الكبيرة والغنية في عملية التحديث ومتابعة تجارب الشعراء الشباب خصوصا الذين استفادوا كثيرا من تجربة شاعرنا سواء على مستوى تجربة شعر المقاومة أو المعتقلات أو الشعر الوجداني والإنساني وحتى الشعر العاطفي الذي يتقن شاعرنا من خلاله توظيف الرمز والابتعاد عن المباشرة الفجة ، لا يمكن لأي ناقد أو دارس أو أي مهتم بالشعر والأدب الفلسطيني عموما أن يمر مرور الكرام على مثل هذه التجربة الناضجة والواعية لمسؤولياتها ، فالشاعر عبد الناصر صالح المناضل والمحرض والمبشر بكلماته وأشعاره يجسد تجربة نوعية دائمة الحضور والتوهج ، ” فمن تجربة الاعتقال والتي شكلت مداميك شاعريته حيث كانت الانطلاقة الأولى من خلف القضبان وحول بقصائده ظلام السجن إلى نور ونار رغم كل حملات القمع التي تعرض لها ، لكنه لم ينكسر قلمه أمام الرياح العاتية وكرس أشعاره في تناول مسيرة الشعب الفلسطيني النضالية وكان ناطقا إعلاميا للفقراء والشهداء والجرحى والأسرى وحازت الأرض على فضاءات أشعاره ، فكان دائم التوثيق لقضايا شعبه مستنهضا قواه من اجل الوصول إلى التحرر من الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس ” .
في ( مدائن الحضور والغياب ) نلتقي مع شاعر الأمل والصدق والوثبة، مع شاعر يعانق الجرح ويسكن الألم ، مرفرفاً فوق سماوات الإبداع والتواصل ، مع شاعر الوطن والخيمة والشمس والسجون، مع مكافحٍ مقاتل بالكلمة والقصيدة ،حيث خاض التجربة منذ فتوته متوارثاً ، كل ما هو أصيل وقيم ، من والده المرحوم الشاعر محمد علي الصالح ، المناضل الفلسطيني البارز من الرعيل الأول الذين كافحوا وقاتلوا ضد الوجود البريطاني والصهيوني على ارض فلسطين ، وتعرض للاعتقال والتعذيب والنفي والإقامة الجبرية مرات عديدة ، وقد غرس هذا الرجل الوطنية وصدق الانتماء في وجدان ونفسية ولده عبد الناصر، الذي سار على نفس الخطى ، واقتدى بوالده دون أن يؤثر ذلك على خصوصيته كشاعر له لغته وأدواته ونفسيته الخاصة ، فمثلما دخل السجن هو وكتب عنه و منه ، فقد دخل والده السجن من قبله وكتب قصائد مازالت تذكر إلى الآن ومنها ” دم القسام ” ومرثيته الشهيرة في وداع أبي سلمى ، وهناك من يحفظونها..
ما يميّز بينهما هو زمن الكتابة ، فقديماً كان الشعر تقليدياً وكلاسيكياً ، أما الآن فهو حداثي على مستوى الشكل و المضمون .
استطاع عبد الناصر صقل موهبته مبكراً، وكتب الشعر منذ كان طفلاً، وقرأ ما تيسر من كتب كانت متوفرةً في مكتبة والده ، كان يقرأ ما يكتب والده ، أيضاً، ومازال ، إلى الآن ، محتفظاً بالكنز، فمتى سيرى هذا الكنز النور يا أبا خالدٍ ؟.
حالات الشاعر كحالات البحار في هذا الديوان نراه مسكوناً بالهمّ العام ومنحازاً لفلسطين وشعبها وشهدائها وتاريخها ، تتجلى في كلماته روح ثائرة تحطم القيود وتواصل التحليق ، فمن أكرم من الشهيد والوطن ، من الأرض المجبولة بالحنين و الدّم والأفئدة التي تنتظر الخلاص ، وكم يتجلى شاعرنا في هذا الديوان وخصوصا وهو يستخدم الرمز والقناع في كثير من الأحيان كما في قصيدته ” البدوي ” .
يا بحارة الصحراء …..
قلبي حارس لنشيدكم
وانين صهوتكم
وطهر صلاتكم
فلتذكروا البدوي
لا الأنواء تجرفه ولا ليل الدروب الفارس النظرات
يبطئ شمس طلعته
أنا البدوي
وتلك هي الحالات المتجددة للشاعر الذي ينتقل بنا بين الحالات التي تدل دائما أن وراءاها شاعرا مبدعا وقادرا على العطاء والتميز ومجابهة المتغيرات والصمود الذي يشكل دائما العنوان والبوصلة :
سماؤنا عطشى
فلا تكتم غيابك عند مفترق الأسى
لا يرغب المائي عزلته
إذا شاخ الربيع وأحجمت عنه السواقي
مشغل صوتي بأنغام التحسر
كيف أعرج لانتشال الأخضر الملكي
من حمم المشانق ؟؟؟
وفي قمة الفجيعة والغياب ، يرى الشاعر ظلال شاعره المرتحل، ويعاهده على المضيّ على الدرب والبقاء على العهد ، وأن تبقى ذكراهُ حيةً خالدة، فالبحر لا يخذل رُبّانَهُ والقصيدة لا تخونُ كاهِنَها، ثم أنّ العطر يملأ الأعراس حين يأتي، والأيائل تعزف لحنه، والخيول ترقص في ساحاته، وأشعاره في كل مكان خبزٌ للفقراء أو جرحٌ أوخيمةٌ تأوي التائهين، فكيف لا يحنّ إليه ولا نحنّ إليه ، فهكذا فعل عبد الناصر صالح مع فدوى طوقان ومع عزت الغزاوي ومع غيره من أصدقائه المبدعين :
وحدك الآن
لا
لست وحدك
تغتسلين بماء العيون الاسفية
إذا جف ضرع الينابيع
وانشطر القلب نصفين
نصف تلقفه الموت
حين استجار من الحلم بالدمع
فاستنزفته المتاهات
والرجفات المدببة الرأس
والآخر ازدان بالشعر
يقطر
مشتملا باليفاعة
وهكذا فان قصائد هذه المجوعة الجديدة لشاعرنا لا تنفصم عن الرغبة المتواصلة في البحث عن كنوز اللغة والإضاءة في توحدٍ عضويّ ، يحاول بأكبر طاقة تعبيرية ممكنة أن يكتب الشعر، فالشعر هو الخلاص والإنعتاق من ربقة الأهواء ، وهو الأسمى في هذا الوجود..
تتدفق الصياغة الشعرية كلحن سيمفوني بشاعرية صادقة فنا وتعبيرا ، يتصاعد ويرق وينساب قوياً ، عنيفاً وجميلاً.
والانطباع الأهم، أننا أمام مجموعة متقنة على مستوى الأداء والصياغة واللغة، فيها تطوّرٌ مدهشٌ على قدرٍ كبيرٍ من إبداع الصور الشعرية ، وإخضاع اللغة لمرادفات يريدها الشاعر حتى يخترق الواقع.
رغم شفافية قصائده، إلا أنه يحمّلها دلالاتٍ متعددةً، ويحمّلها أفكاراً ثوريةً وتعبوية متقدمة ، ويبدع في صقلها باللغة الشعرية السلسة والممتنعة ، ويخلط الرمز الشفاف بشعرية الأداء ، فيتداخل الزمان مع المكان مع الإنسان ، هذا الثالوث الذي يشكل محور قصائد الديوان ، يفجّر من خلالها ، شعرياً ، كل الاقتحامات اللغوية والنفسية ، وقد شكلت الكثير من قصائد مجموعة ( مدائن الحضور والغياب ) حالات من العشق الصوفي الذاتي / الوطني / الإنساني ، حيث ربط الشاعر بين المعرفة الإبداعية ، والتدوير الاجتماعي ، ولقد حاول ( غيرفنش ) ذات مرة في هذا الإطار – التدليل عليه في مستوى المجتمعية ، أو المستوى ( الميكروسوسيولوجي ) وفي مستوى الجماعات المحلية ، والطبقات الاجتماعية ، وفي مستوى المجتمعات الشاملة ، وهو أهم المجتمعات حسب رأيه ، لأنه يسمح بمراجعة النتائج المتحصل عليها في المستويات الأخرى من جهة ، ولأنه يفضي إلى العلاقات الأساسية بين أنظمة المعرفة بصيغة عامة والبنى الاجتماعية في كليتها.
إن العلاقة الأساسية بين الحياة الاجتماعية والخلق الأدبي لا تهم مضمون هذين القطاعين من الواقع البشري ، بل أن الطابع الاجتماعي للخلق الأدبي مأتاه أن بنى عالم الأثر تجانس البنى العقلية لمجموعات اجتماعية معينة ، أو هي في علاقة معها يمكن إدراكها وفهمها هنا .
هذا الديوان ثمرة جديدة من ثمرات نجاحات وتألق الشاعر عبد الناصر صالح في فضاءات الشعر الفلسطيني والعربي وفي ثنايا التجربة المعاشة التي تلهم الشاعر وتفجر أحاسيسه ومشاعره الجياشة .