لم ينتظر الفلسطينيون يوماً من المحاكم الدولية أن تكون حلاً نهائياً لاحتلال مستمر منذ ستة وسبعين عاماً، لكنهم بالتأكيد ينظرون إلى أي خطوة تتخذها هذه المؤسسات الدولية لصالح القضية بعين الرضا، بهذا المنطق، وإصدار أي شكل من أشكال القرارات التي تدين مسؤولين “إسرائيليين” بأسمائهم الصريحة جراء جرائمهم في عدوانهم المستمر على قطاع غزة منذ أكثر من سبعة أشهر هو أمر مهم لا شك.
وللأهمية دلائل، أبرزها القلق الإسرائيلي الذي عبر عنه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، واصفاً الأمر بالـ “فضيحة”، فيما أرسل 12 نائباً جمهورياً في الكونغرس الأمريكي رسالة إلى المدعي العام للجنائية الدولية يهددونه فيها بعقوبات ثقيلة في حال أقدم على إصدار مذكرات اعتقال دولية بحق نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين آخرين، (من بينهم وزير الحرب يوآف غالانت، ورئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي).
المخاوف الإسرائيلية لا تتعلق بإمكانية تطبيق قرارات المحكمة وبالتالي اعتقال المسؤولين الصهاينة في الدول التي يزورونها. سبق وتمت إحالة رئيس وزراء العدو الأسبق أرييل شارن إلى محكمة العدل الدولية بسبب مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، كما صدر حكم ضد الوزيرة السابقة في حكومة العدو تسيبي ليفني التي كاد أن يتم توقيفها في بريطانيا. ما الجديد إذاً؟
الخطير بالنسبة للكيان هو السياق الذي تأتي فيه مذكرات الاعتقال الدولية، في ظل تغير واضح في النظرة الدولية لـ “إسرائيل”. الإهانة الأخلاقية المتمثلة بالمذكرات تبدو استكمالاً لمسار عالمي مناهض للكيان بدأ يتشكل مؤخراً: تظاهرات الجامعات العالمية؛ تصريحات مسؤولين غربيين حول ضرورة وقف الحرب التي “تجاوزت الحد”؛ انهيار السردية الإسرائيلية الاستعمارية حول أسباب قيام الكيان على أرضنا العربية. ناهيك عن التظاهرات في الداخل المحتل ضد نتنياهو شخصياً لأجل إعادة الأسرى الصهاينة لدى المقاومة.
ورغم أنه من حق المظلومين الفلسطينيين أن يأملوا وضع مجرمي الحرب الصهاينة خلف القضبان، ومحاكمتهم على جرائمهم، كما تمت محاكمة آخرين، من بينهم مثلاً الزعيم الصربي رادوفان كارادجيتش. إلا أن الدعم الأمريكي يحول دون ذلك، فواشنطن هي المتحكم بمحكمة الجنايات الدولية، والراعي الرسمي لجرائم الكيان في الوقت ذاته، بمنطق “حاميها حراميها”.
ولهذا، فالسؤال عن أسباب استيقاظ الجنائية الدولية من سباتها المفتعل إزاء الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة أمر مشروع: ما الذي استدعى هذا الإجراء؟ خصوصاً وأن كريم أحمد خان، الذي بدأت ولايته نهاية 2020، بدا أكثر محاباة للغرب والولايات المتحدة من سلفه فاتو بنسودا، بدليل صمته سبعة أشهر عن جرائم الإبادة المستمرة على قطاع غزة المحاصر، بل تبنيه الرواية الإسرائيلية بحذافيرها خلال زيارته الأراضي المحتلة نهاية العام المنصرم، متجاهلاً خرق “إسرائيل” للمادة 18 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والبروتوكولات المكملة لها لعام 1977.
الاستغراب من التوجهات الجديدة للجنائية الدولية نابع من تاريخ هذه المحكمة التي سبق وأصدرت قرارات اتهام وجمدت أخرى لأسباب سياسية، ومنها رضوخها للضغوط الأمريكية الغربية عام 2019، وإغلاقها تحقيقاً ابتدائياً بدأته حول جرائم قوات الاحتلال تجاه الشعب الفلسطيني وإرثه الجغرافي على مدى عقود.
يقودنا هذا التحليل إلى التفكير في الأسباب المحتملة لـ “صحوة الجنائية الدولية” ضمن السياق العالمي. على أبواب انتخابات يقف فيها الديمقراطيون على أرضية مهتزَّة، يحتاج الرئيس جو بايدن إلى تخفيف الضغط الشعبي الرافض للدعم الأمريكي اللامحدود للكيان في عدوانه المستمر على قطاع غزة، والذي تعبر عنه التظاهرات الطلابية المتسعة التي تشهدها الجامعات الأمريكية. التلويح بقرارات دولية تصدرها المحكمة الجنائية قد يكون وسيلة أمريكية للضغط على حكومة نتنياهو للقبول بوقف ولو مؤقت لإطلاق النار، من شأنه تنفيس الغضب الشعبي العالمي، والحؤول دون استمرار الاستنزاف السياسي والعسكري للعالم أجمع، أو حتى ضمان موافقة “إسرائيلية “على المبادرة المصرية – القطرية لوقف “اجتياح رفح” والتوصل لإنهاء الحرب تدريجياً. وفي الوقت ذاته يخرج بايدن ليتحدث عن “العذابات” التي مر بها “اليهود” عبر التاريخ، ويجدد وقوف واشنطن مع الكيان، في رسالة للوبي الصهيوني في الداخل الأمريكي.
قد يكون الاحتمال الآخر أكثر منطقيةً: توجه أمريكي غربي لتحميل نتنياهو و”جماعته” اليمينة المسؤولية عن كل الجرائم، تمهيداً لإزاحته شخصياً من المشهد السياسي، والإتيان برئيس وزراء أقلَّ مراوغة مع الأمريكي، والمرشَّح هنا هو بيني غانتس، ويعزز هذه الفرضيَّة توجه الجنائية الدولية لتوجيه اتهامات لكل من وزير الحرب يوآف غالانت، ورئيس الأركان الجيش هاليفي، إلى جانب نتنياهو.
ولأن العقلية الجرمية للعصابة الحاكمة في تل أبيب تتوجه نحو الضرب خبط عشواء، فهي تهدد بالانتقام من السلطة الفلسطينية، وفق ما ذكر موقع “أكسيوس”، الذي نقل تهديدات تل أبيب بتجميد تحويل عائدات الضرائب التي تجمعها الحكومة الإسرائيلية لصالح السلطة الفلسطينية. وبدون هذه الأموال، ستكون السلطة الفلسطينية مفلسة، وبالتالي سوف تنهار وفقاً لمسؤولين إسرائيليين وأمريكيين. التهديد الإسرائيلي ليس جديداً، لكنه يطرح بشكل جدي مسؤولية العالم عن وقف هذه العنجهية الإسرائيلية تجاه الجميع، بمن فيهم رعاتها الغربيون.
أما شخصنة مرتكب الجريمة فهي مسألة مهمة في أهداف القرارات المُنتظرة، فمن وجهة نظر أخرى، يبدو أن حكومات الغرب وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، تحاول الحفاظ على فكرة الكيان مقابل التخلي عن شخصيات صهيونية بعينها، بمعنى إنقاذ “إسرائيل” ولو اضطر الأمر للتضحية بـ “بنيامين نتنياهو” وعصابته الحاكمة. بهذا المنطق، علينا جميعاً أن ندق ناقوس الخطر، فمشكلة جرائم الحرب ضد فلسطين أرضاً وشعباً وتاريخاً لا علاقة لها بهوية رئيس الوزراء أو أركان حربه، هذ ثقافة وأيديولوجية هذا الكيان منذ نشأته قبل ستة وسبعين عاماً، وهي أسلوب إجرامي مستمر طالما بقي هذا الكيان ينفث شروره في وجه العالم أجمع، ولا حل لوقفها إلا بإقامة الدولة الفلسطينية على كامل التراب الوطني الفلسطيني، وإحقاق الحقوق وفي مقدمتها حق العودة إلى الأرض من بحرها إلى نهرها.