رام الله- الحياة الجديدة- حنين خالد- تحوّل حراس الحقيقة إلى هدف دائم للاحتلال خلال العدوان الدموي على غزة، فوصل عدد الشهداء الإعلاميين إلى 205، فيما خسر عشرات الزملاء عوائلهم وأحبتهم ومنازلهم، كما ذاقوا المر.
تشكل قصص أسرة “الحياة الجديدة” في القطاع شاهدًا على هذا الواقع، فخلال حديثنا مع زملائنا للاطمئنان عليهم، ولإخبارهم بأننا بصدد ملحق خاص حول قصص غزة التي لا تنتهي، شاركنا البكاء، إذ تحول الزملاء من صناع للقصة إلى حبكتها وشخوصها، فقد انقلبت حياتهم رأسًا على عقب، وخسروا أغلى ما يملكون، وفقدوا قدرتهم على الاستمرار في اعتياديتهم، وصار لهم قاموسهم الخاص من الوجع، وصار همهم بعد عودتهم من النزوح الاجباري تفقد بيوتهم، وإعادة ترميمها إن حالفهم الحظ.
مؤمن الطلاع: كلهم رحلوا
لخص الزميل مؤمن الطلاع، الحال فقال: “أنا لست فقط مراسلاً أنقل قصص الآخرين، أنا اليوم القصة ذاتها”. وأضاف أنه لم يكن يتصور أن اليوم الثامن للعدوان سيفقده كل شيء. إذ كان مع عائلته في المنزل، وسط القصف المستمر، لكن في لحظة واحدة، ساد الظلام وهز صوت انفجار ضخم كيانه قبل أن يستوعب ما حدث.
وتابع: عندما فتحت عيني، لم أكن في منزلي بعد الآن. كنت بين الركام، الدماء تغطي وجهي، والغبار من حولي. حاولت التحرك، لكن ألم رأسي وظهري كان لا يُحتمل.
فقدت في ذلك اليوم ابني وابنتي، أربع من أخواتي، وزوجة أخي وجنينها، أعمامي وأولادهم، وكانت زوجتي وأمي وأختي غارقات في إصاباتهن. لم أستطع دفن أحبابي، ولم أملك القوة، لا الجسدية ولا النفسية.
كان مؤمن يحفر بين الأنقاض في النهار، ويحاول انتشال من تبقى في الليل، ولم يكن يعلم أين سينام، وكان يحمل أوجاعه ويتنقل بين منازل الأقارب، لكن لا شيء كان يخفف من مرارة الفقد.
وزاد: كنت أذهب يوميًّا إلى المستشفى، أراقب أمي وأختي وزوجتي، وأبحث عن أمل، عن أي خبر يطمئن قلبي، لكن غزة لم تكن تملك علاجًا لهم، والأطباء أخبروني أن الحل الوحيد هو نقلهم للخارج، وهو ما عجزنا عنه رغم محاولات كثيرة.
وحسب الزميل الطباع، لم يكن لدى العائلة أي طعام، واختفى كل شيء من الأسواق، ولم يعد هناك ما يقدمه للمصابين سوى الدعاء بالصبر.
وأضاف: مع تقدم الاحتلال نحو منطقتنا، اضطررنا إلى النزوح مجدداً. وجدنا منزلًا بالكاد يصلح للسكن، لكنه لم يكن ملاذًا آمنًا، إذ لم تمضِ سوى ليلتين حتى أجبرنا القصف على الرحيل مجددًا. انتهى بنا المطاف في مستشفى الأقصى، حيث نصبنا خيمة ظننا أنها ستكون مؤقتة، وتسربت إليها مياه المطر من كل جانب، وسرعان ما انهارت، لتزيد من معاناة المصابين.
وتابع: كنا ثلاثين شخصاً في خيمة واحدة، بالكاد نتمكن من مدّ أرجلنا للنوم، ولم يكن هناك مكان آخر نلجأ إليه، وبعد طول مناشدات، جاء الفرج وحصلنا على إذن لعلاج أمي وأختي في مصر، وزوجتي في تونس. كنت سعيداً لأنهم حصلوا على فرصة للعلاج، لكن ألم الفراق كان قاسياً، خاصة مع انقطاع الاتصالات، فلم أعد أملك وسيلة للاطمئنان عليهم.
وواصل مؤمن: عندما انسحب الاحتلال من منطقتنا، عدنا إلى ما تبقى من منازلنا. لم يكن هناك شيء، سوى الركام والذكريات. وجدنا منزل عمي المدمر، حاولنا ترميم ما يمكن ترميمه، بحثاً عن أي مكان نأوي إليه. لكن الحياة في بيت بلا نوافذ، ولا ماء، ولا مراحيض، كانت أقرب إلى البقاء على قيد الحياة فقط.
عماد عبد الرحمن: كسرت الحرب أقلامنا
بينما بث الزميل عماد عبد الرحمن قهره، وقال إن مراسلي “الحياة الجديدة” كسرت أقلامهم، فكلنا تشردنا ونزحنا بأرواحنا فقط.
وأضاف أنه لا يملك ما يقوله عن نفسه مقابل الزملاء الذين فقدوا أولاده وعائلاتهم، أو دمرت بيوتهم واحترقت.
وتابع: يوم تعرض حينا في 9 تشرين الأول 2023، للأحزمة النارية من الرابعة عصراً، وحتى الثامنة من صباح اليوم التالي، ثم خرجنا من تحت الركام، لكننا لم نجد حينا في منطقة الرمال الجنوبي.
اضطر عماد للنزوح المنطقة الوسطى حاملاً همومه فقط، وتكرر المشهد 14 شهراً، وأصبح من المؤلم والصعب تغطية قصص الناس، لأننا أصبحنا نحن القصة، ولا نملك من أدواتنا سوى حناجرنا المتعبة.
هاني أبو زرق: النوم على كرتونة
فيما لم يكن في مخيلة الزميل هاني أبو رزق أنه سيجد نفسه مضطراً للنوم على بوابات المشافي والأرصفة.
وقال: اضطررت لمغادرة بيتي في مدينة غزة مع عائلتي باتجاه الجنوب، وهناك افترقنا ولم أراهم خلال الحرب سوى مرات معدودة.
ووفق أبو رزق، لم يكن قرار الانفصال عن عائلته سهلاً، في ظل حاجة والدته وأخواته لمن يساعدهم في توفير أبسط متطلبات الحياة، خاصة أنه اضطر لمغادرة مدينة غزة، ولكن تشجيع والدته له وإصرارها على متابعة عمله كان كلمة الفصل.
وأفاد: غادرت رفح حيث خيمة عائلتي باتجاه المحافظة الوسطى، وهناك كان فراشي ن كرتونة تنتقل معي، إلى أن نجحت في نصب خيمتي أمام بوابة مشفى شهداء الأقصى، حيث تم استهدافه أكثر من ثماني مرات، في إحداها استهدفت خيمتي ولحسن الحظ أنني كنت خارجها لأداء عملي الصحفي.
وأضاف: كنت أشعر بالغيرة من إمكانات مراسلي الوكالات والفضائيات الأجنبية بالقياس مع العاملين في الإعلام الوطني، ولكن احقاقاً للحق كنا جميعاً على قلب رجل واحد، ولم يقصروا معنا عندما كنا نحاول شحن جوالاتنا، التي كانت كل أدواتنا، وكان أحد أكبر همومنا العثور على وسيلة نقل للوصول إلى أماكن القصف، كنا نضطر لركوب الكارات التي تجرها الدواب.
واستذكر: تراودني مشاهد مؤلمة كبيرة صورتها، ولن أنسى وجوه الأمهات اللواتي كن يبحثن عن أطفالهن، كن يمسكن بملابسي خلال التصوير لسؤالي إن كنت قد رأيت أطفالهن، كانت عيونهن تتمنى أن تجد إجابة، ولكني لم أقدم لهن سوى الرغبة في البكاء معهن، خلال البحث اليومي عن كسرة خبز أو شربة ماء، وكنت أيامًا عديدة أعود الى خيمتي بخفي حنين، لم يكن لدينا ساعات عمل معينة ولم يكن لدينا بالأساس ليل ونهار، فقد كان يمر علينا أيام لا ننم فيها سوى ساعة أو ساعتين.
فوجئت باستشهاد عمي أبو وائل وعمي أنيس خلال التغطية وشاركت بدفن الأول ووداعه فيما لم أحظ بنفس الفرصة مع عمي أنيس رحمه الله.
تحسين الأسطل: 7 أشهر من النزوح
وقال الزميل تحسين الأسطل، أصعب ما عشناه دمار منزل نتيجة القصف، وصعوبة الوصول إلى الماء والكهرباء إضافة إلى اللصوص، وقد واجهتنا صعوبة كبيرة بعد معاناة أكثر من سبعة شهور من النزوح المتكرر في إعادة تهيئة ما أمكن ليصبح صالحًا للسكن، لأن منزلك بأي هيئة أفضل من الخيام.
وأكد أنهم عاشوا لحظات قاسية لا يمكن وصفها بدقة، عدا عن القلق نتيجة التهديدات المستمرة من الاحتلال.
وتابع: ما تعرضنا له أكثر من جريمة بحق الإنسانية أو جريمة حرب، فهو استهداف للحياة بكل تفاصيلها وقتل وتجويع.
حسن دوحان: عشنا الجحيم بتفاصيله
“عشنا أيام جحيم بكل معنى الكلمة خلال الحرب الهمجية التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة”، بهذه الكلمات المؤلمة بدأ الزميل الدكتور حسن دوحان سرد ما حدث، فقد فاق التصور وعجزت الكلمات عن وصفه.
واستطرد: عشنا أيام جحيم بكل معنى الكلمة، بينما كنا نستعد لصلاة المغرب، اهتزت شقتنا في برج بمدينة حمد، خلال الشهر الأول من الحرب، وكأن زلزال أصابها.
وقال: كل شيء يتناثر أمامك، وأنا أتأرجح وعقلي وعيني لا يبحثان عن النجاة بقدر البحث عن الأهل، صواريخ الموت تضرب برجنا وتصيبه في الطابق الرابع ويذهب أطفال ونساء شهداء، ونهرع للبحث بين الركام وسط الظلام عن إشلاءهم وجثثهم، وليس معنا سوى كشافات هواتفنا الخافتة.
وأضاف: لم تنته المعاناة، ففي كانون الأول أمر جيش الاحتلال سكان مدينة حمد وشمال خانيونس بالاخلاء الفوري، لم يسعفنا الوقت لإيجاد وسيلة نقل لأسرتنا الكبيرة، ونضطر للنوم في منطقة قتال ليلة من الجحيم، فلم تتوقف الطائرات عن قصف المساكن المحيطة بالأحزمة النارية، إضافة إلى قصف مدفعي متواصل حتى كنا نطير في الهواء مع كل انفجار.
عاش دوحان لحظات رعب وخوف لم يشهدها أبدًا، وفي اليوم الثالث من كانون الأول بدأت رحلتنا مع النزوح في رفح، وانقسمت أسرتنا الكبيرة لتتوزع على منازل الأهل.
وفي رفح كانت رحلة الجوع والقهر، والارتفاع الجنوني بالأسعار، والقصف المتواصل، وبتنا على يقين أن الموت قادم، وإن عدنا لمكان سكننا لتقرر العودة إلى مدينة حمد ونمكث بها ثلاثة أسابيع تعرضنا للقصف أيضا في برجنا والمناطق المحيطة.
وتابع؛ في ليلة الثاني من آذار 2024 كنا على موعد مع الموت، فاجتاحت قوات الجيش حي حمد وسط إطلاق وابل من الصواريخ، ولم نجد سوى بيت الدرج مأوى لعائلات البرج للاحتماء من الصواريخ والقذائف، لنقرر في صباح اليوم الخروج للتفتيش أو الحلابات، ولكن الاحتلال أمرنا بالعودة لمنازلنا.
وأضاف دوحان: عشت شهد رعب آخر، واضطررت للنزول مع جيراني لانتشال جثث الشهداء وتعرضنا لإطلاق نار كثيف أدى لاستشهاد من حولي جميعا، وسحب بعضهم إلى داخل البرج، ومن ثم نقلهم جثث للمدرسة لدفنها.
وقال: فحصنا الاحتلال لحقًا، ليتم اعتقال ابني البكر يوسف، ونبدأ رحلة من الألم والمعاناة والقهر، مع رؤيتنا لمشاهد تعذيب المعتقلين.
واستدرك: في رفح بدأنا نواجه فصولاً من القهر أمضينا شهر رمضان دون أن نجد ما نتسحر به، ووصل سعر علبة الفول إن وجدناها عشرة شواقلـ أما كيلو الأرز فوصل إلى 35 شيكلًا مع انعدام وجود أي نوع من اللحوم.
وتابع: حاولت عدة مرات الذهاب لمدينة حمد لجلب جزء من ملابسنا ولكني تعرضت لإطلاق النار، كما تعرضت مساكننا للسرقة من قبل لصوص وتحت حراسة الاحتلال. وفي آب طلب منا الاحتلال إخلاء مدينة حمد فوراً، لنجد مكاناً وسط مواصي خانيونس الممتلئة لإقامة خيمة بعد أن بتنا أياماً في العراء.
ووفق الزميل دوحان، فقد فجر الاحتلال ناقلة جند قديمة أسفل برجهم لتتحول مساكهم إلى تراب وركام، ولم يجدوا ملابسهم وعفشهم، كما تضاعفت معاناتهم عشرات المرات، وتغيرت ملامحهم وألوانهم، وخلال الفترة من آب 2024 وحتى شباط 2025 فقدنا عددًا من أفراد أسرتنا.
وأشار إلى أنه بعد 360 يوماً قضاها ابنه يوسف في الأسر، من الله عليه بالفرج وقد خسر 44 كيلو من وزنه، وتعرض لشتى ألوان العذاب.
نائل حمودة: احترق بيتي
وقال الزميل نائل حمودة إن بيته احترق بالكامل، ولم يعد يجد أي شيء، حتى وسائل عمله الصحافي صارت رمادًا.
وأضاف: تختلف هذه الحرب عن غيرها، فقد أجبرتنا على الخروج من بيوتنا، وتشتتنا، وتقطعت بنا السبل، ولم تتوفر الكثير من السلع، وخاصة الطحين وحليب الأطفال. وقد عشنا أكثر من عام، في خيمة لا تحمي من أشعة الشمس ولا برد الشتاء.
وزاد: هذه الحرب جعلتنا نشعر بكل ما تعنيه قسوة الحياة، النزوح المتكرر والمتعب وتكلفته الباهظة مالياً ونفسياً وجسدياً، ولم تكن حرب قتل ودمار فقط بل حرب تجويع واستغلال.
ووفق نائل فإنه طيلة الحرب لم يعلم أي شيء عن والديه الا بعد إعلان الهدنة، فقد عاد إلى بيت لاهيا، والتقى بوالديه وهما بحاجة للعلاج، وأقعدهم المرض بسبب كسور بالقدم، ناهيك عن عن بيتنا الجميل الذي أحترق بالكامل.
عبد الهادي عوكل: نجوت من الموت مرات
وأكد الزميل عبد الهادي عوكل، أن العمل الصحفي الآن ضرورة؛ للمساهمة في الكشف ونشر آلاف القصص الإنسانية، فكل بيت وشارع ومخيم يحتوي القصص الصعبة، ولكن العمل بحاجة إلى مقومات.
وأكمل: عندما تحدثت مع الزميلة حنين بخصوص الملحق، فرحت كثيراً، لأنّ غزة اليوم كلها معاناة وألم، وانقطاع الكهرباء، وصعوبة في المياه، وحالة من الفوضى والغلاء الفاحش في الأسعار.
وأضاف أن العمل بحاجة إلى مقومات ومعدات، ومواصلات، وجهاز محمول يدعم الشريحة الإلكترونية لأنها مصدر الإنترنت في ظل الصعوبات داخل غزة.
وتابع: خلال 15 شهرًا من الحرب، تعرضت للكثير من الصعاب، ونجوت عدة مرات وأسرتي من الموت، ففي 29 تشرين الأول 2023، تم استهداف منزلي بصاروخ زنة طن، ضمن حزام ناري استهدف منطقتي في تل الزعتر، واستشهد عشرات المواطنين في الاستهداف الذي ضرب خمسة منازل، انفجرت باستثناء الصاروخ الذي استهدف البناية التي أسكنها. وكنت وأسرتي وحدنا في البناية، وبقية السكان نزحوا للجنوب، كما نجوت عندما تم استهداف المنزل المجاور لبيت أخي الذي نزحت إليه في مخيم جباليا، وانهارت جدران المنزل علينا.
وأشار إلى أنه وبعد عودته لمنزله في تل الزعتر في شباط، 2024 والذي أصابه ضرر بليغ، إذ تم استهدافه بشكل مباشر في آذار 2024، وتلقى اتصالاً من جيش الاحتلال باخلاء المنزل قبل تدميره بشكل كلي، حينها خرج وأسرته م ولم يتمكن من اصطحاب أي مقتنيات سوى جهاز اللابتوب الذي تعرض للسرقة خلال نزوح آخر.
وتابع: يستحيل العمل في الحرب بالكتابة كما يجب؛ لعدم توفر الامكانات، وقد ساهمت بالعمل مراسلاً لاذاعة صوت فلسطين من شمال قطاع غزة، ونقل المعاناة يومياً على مدار أشهر الحرب.
واختتم: ومن بين المعيقات أيضاً الانشغال الدائم في توفير الطعام لأطفالي السبعة، خاصة في ظل المجاعة، حيث عانى جميع أطفالي من سوء التغذية (مرض الريقان)، وهذا كان تحديا كبيرا جداً.
هذه بعض من حكايات مراسلينا باختصار مع حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة التي وصفت بأنها الحرب الأكثر دمويةً بحق رسل الحقيقة وحماتها.