عالم الاجتماع العربي ابن خلدون له نظرية معروفة في تشبيه الحضارات الإنسانية بالكائن الحي، حيث طبق عليها قانون الطبيعة، فذكر أن الحضارة تمر بمراحل وأطوار كالإنسان الذي يولد صغيرا ضعيفا، ومع الأيام يشتد عوده وينمو جسده ويكبر حتى يبلغ تمام النضج والاكتمال، وبعدها يبدأ المنحنى في الهبوط شيئاً فشيئاً؛ حتى إذا ما أدركته الشيخوخة بدت عليه مقدمات النهاية ثم الموت الذي يعقب الهرم. لهذه النظرية مؤيدون ومعارضون. المعارضون يرون أنه تجاوز غير دقيق فما ينطبق على الفرد لا يمكن تطبيقه على حضارة تضم شعوبا يختلف فيها كل فرد عن الآخر. هذه النظرية تلائم الفكر العربي الذي يميل إلى التعميم والتبسيط والتنميط، وبما أنني أنتمي لهذا الفكر بصورة أو بأخرى، فإنني أعول عليها أحيانا لتفسير سلوك بعض الدول والحضارات.
هل يمكن تفسير سلوك دولة قطر دون التفكير بمنطق أنها تمر بمرحلة المراهقة؟ في هذه المرحلة نجد المراهق يتمرد على أسرته وأهله، خاصة سلطة الأب ونصائح الأم، يحاول أن يجرب كل شيء، ويصل الأمر أحيانا إلى تجربة الشيء وضده، ويتحمس لهذا كما يتحمس لذاك، تصرفاته غبر مبررة بل طائشة، تؤذيه قبل أن تؤذي الآخرين، لكنه يشعر دائما أن تفكيره هو الأفضل، وأن من ينصحه لا يريد له الخير بل السيطرة.
تاريخ قطر كدولة مستقلة يبدأ متأخرا، في عام 1971، بعد استقلالها عن بريطانيا، وحينذاك حكم الشيخ أحمد بن علي آل ثاني الذي أطيح به بانقلاب عسكري نفذه ابن عمه الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، وقام خليفة بتوطيد حكمه عن طريق تسليم مفاصل الدولة لأولاده، وفي هذه الفترة كانت قطر تعتبر السعودية بمثابة الأب الروحي أو زعيمة المنطقة التي تنصح فتطاع، وكانت العلاقة بينهما على خير ما يرام، وعند تأسيس مجلس التعاون الخليجي انضمت قطر إليه لتكون واحدة من دوله الست.
ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، وذاق الشيخ خليفة من نفس الكأس التي تجرع منها ابن عمه، ولكن هذه المرة كان على يد ابنه البكر «حمد» الذي تولى مقاليد الحكم في يونيو عام 1995 إثر انقلاب على والده أثناء غياب هذا الأخير في سويسرا. ولم يعجب ذلك السعودية الدولة الملكية ذات التقاليد الراسخة في الحكم وولاية العهد، وحاولت أن تقف بجانب الأب وتبعد «حمد» عن السلطة لكن المحاولة اكتشفت وفشلت، ولم ينس «حمد» موقف السعودية، وبدأت بوادر الشقاق بين هذه الإمارة صغيرة الحجم والسكان وبين السعودية كبرى دول الخليح مساحة وثقلا سياسيا واستراتيجيا.
حاول الشيخ «حمد» الذي تعلم في بريطانيا أن يجعل لإمارته ميزة واختار الإعلام والاتصالات مجالي تميز وهما لا يحتاجان سوى لميزانيات ضخمة وتمويل يسمح بالوصول لأفضل الكوارد والتقنيات الحديثة، وكانت قناة الجزيرة بداية لهذا الطريق، التى أصبح لها وزن وقوة تأثير كبير في المنطقة العربية كلها، خاصة بعدما اعتبرها ثوار الوطن العربى شريكا في ثوراتهم المسماة ثورات الربيع العربي.
أحدث الأمير «حمد» الكثيرمن التغيير فى سياسات قطر الخارجية والخليجية، ولم يحاول أن يسير على نهج أبيه، وأراد لبلده دورا أكبر ودفع بسخاء لذلك، وساعد بشكل مباشر وغير مباشر أطرافا في صراعات عربية وإقليمية؛ مما أدى إلى إرباك المشهد وحساب التوازنات الإقليمية، ولم تعد قطر بالنسبة لدول المجلس التعاون الخليجى الشقيقة الصغرى ولكن الشريك المخالف.
وزاد الأمر حدة مع انقلاب الأمير تميم على والده، أو طبقا للرواية الرسمية تنازل حمد عن الحكم لصالح ابنه وولي العهد الأمير تميم… وحكم الأمير الشاب في فترة تحولات إقليمية عصيبة.. وللحديث بقية في مقال الثلاثاء القادم بإذن الله.
2
فى المقال السابق تحدثنا عن بداية قطر كدولة مستقلة ، وتعرض الحكم فيها لعدة انقلابات أستهدفت السيطرة على الحكم ، فهى تستحق لقب دولة الانقلابات دون منازع ، وتوقفنا عند الانقلاب الأخير من جانب تميم على أبيه حمد ، وتولى الأمير الشاب الحكم فى فترة عصيبة فى يونيو 2013.
ولعل العودة للوراء تفيدنا فى الفهم ، فمنذ سنوات كتب وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر فى مذكراته ، أنه عندما التقى الملك فيصل فى جدة عام 1973 أثناء حرب اكتوبر، فى محاولة لأثنائه عن وقف ضخ البترول ، رآه متجهما ، فأراد أن يستفتح الحديث معه بمداعبه ، فقال : أن طائرتى تقف هامدة فى المطار ، بسبب نفاذ الوقود ، فهل تأمرون بتموينها ، وأنا مستعد للدفع بالأسعار الحرة ؟
يقول كيسنجر :” فلم يبتسم الملك ، بل رفع رأسه نحوى ، وقال : وأنا رجل طاعن فى السن وأمنيتى أن أصلى ركعتين فى المسجد ألأقصى قبل أن أموت ، فهل تساعدنى على تحقيق هذه الأمنية ؟!
فى هذا الفترة كانت الأمور واضحة فى أذهان القادة العرب ومعروف سلفا العدو من الصديق رغم الخلافات بين الحكام ، وأستطاعت حرب اكتوبر ان تجمع العرب على قلب رجل واحد ، ولكن اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 شقت الصف العربى وعزلت مصر عن محيطها العربى وتم تعليق عضوية الشقيقة الكبرى فى الجامعة العربية ، منذ ذلك الحين بدأت البوصلة تحيد عن القبلة الصحيحة وبدأ مفهوم الوطن العربى فى التلاشى مقابل مفهوم الدولة ، ومفهوم القومية العربية والأمن القومى العربى أستبدل بالأمن القومى لكل دولة على حدى، ولم يعد هناك اطار واحد تعمل داخله الدول العربية وتوالت الانشقاقات ووصلت إلى ذروتها بغزو العراق للكويت عام 1990 ،والسماح بالتدخل الأجنبى السافر فى حرب تحرير الكويت ، وأنتهى الأمربنجاح الاستراتيجية الأمريكية فى تفتيت الوطن العربى ، وبدايته غزو أمريكا للعراق على مشهد من الدول العربية ، ساعدت بعضها فى الحرب وصمتت أخرى ، 11 سنة مرت على غزو العراق تغيرت أثناءها الخريطة السياسية ومناطق النفوذ ، وبدأت فكرة الفوضى الخلاقة التى تحدثت عنها كوندليزا رايس تتحقق، فلم يعد الصراع قائما بين الدول العربية وعدو خارجى محتل ، بل أصبح طرفى الصراع الأنظمة الحاكمة وشعوبها وتركت الشعوب العربية لتقتل نفسها بنفسها ولتتحول الدول العربية لساحات لحروب أهلية .
ونعود لقطر ، بعد تولى الشيخ حمد لمقاليد السلطة بدلا من أبيه عام 1995 ، أراد أن يكون له صوتا فى المنطقة ،فظهرت قناة الجزيرة للوجود عام 1996 ، وحاولت أن تسير على نهج البى بى سى فى المهنية والاحترافية الاعلامية ، وكانت رائدة فى مجال قنوات الأخبار فى الوطن العربى ، وساهمت فى نقل الأحداث إلى المشاهد العربى بمصداقية ومهنية فجذبت المشاهد العربى ، قبل أن يصبح لها أغراض تحركها وتشوه حيدتها ومهنيتها .
كانت قتاة الجزيرة خطوة استطاعت بها قطر ان تجعل لها دورا أكبر من حجمها الحقيقى ، وبدأت قطر تغير من توجهاتها السياسية الخارجية ، وتتمرد على التبعية السعودية ، فالشيخ حمد لم ينس للسعودية أنها دبرت للأنقلاب عليه لصالح أبيه ، وحتى ينعم بالحماية الأمريكية سمح بوجود قاعدة عسكرية أمريكية على أراضيه ، و فتح مكتب تجاري لإسرائيل في الدوحة وباع لها الغاز القطرى بالأضافة إلى تعاون مشترك فى مجالات أخرى ، وسمحت هذه العلاقات الودية بين قطر وإسرائيل ، أن تكون الأولى وسيط بين حماس وإسرائيل وبديل عن مصر ودورها التاريخى والتقليدى بالنسبة للقضية الفلسطينية، وهو ما ظهر بوضوح فى حث حماس على رفض الهدنة التى أقترحتها مصر لوقف العدوان الإسرائيلى على غزة .
ومع بداية ثورات الربيع العربى ، حدث تراجع لدور القوى التقليدية المصرية و السورية وايضا السعودية ، مما أفسح المجال أمام طموح قطرللعب دور أكبر تنافس به السعودية والامارات مستندة للقوة المالية لها ولدورقناة الجزيرة الاعلامى الكبير فى هذه المرحلة واحتضانها ومساندتها لجماعة الأخوان المسلمين التى بدأ نجمها فى البزوغ كوريث لنظم الحكم التى سقطت فى تونس ومصر ليبيا .
ومنذ سنوات بدأت بعض دول الخليج تستشعر الخطرمن قطر التى تجاوزت كل الخطوط الحمراء وسمحت لنفسها بالتدخل فى الشؤون الداخلية لدول مجلس التعاون الخليحى ، وأعطت جنسيتها لمواطنين خاليجين معارضين وخاصة بحرنيين ودعمتهم وأعطتهم ملجأ آمن ، فى حين أسقطت الجنسية عن عدد كبير من مواطنيها ذوى الأصول السعودية ،وساندت المعارضة فى بعض الدول الخليجية من خلال قناة الجزيرةالتى أصبحت لسان حالهم ، وتفاقم الأمر بعد وصول الأمير تميم للحكم فى يونيو من العام الماضى الذى واكب ثورة 30 يونيو فى مصر ، واقصاء الأخوان عن الحكم ، وفى حين ساندت السعودية والامارات والكويت أختيار الشعب المصرى ، وقفت قطر ضده ، وجعلت من الجزيرة منصة للأخوان ومعارضى الحكومة المؤقتة وجيش مصروبدا أن حلف قطر_ تركيا أقوى من انتماء قطر الخليجى والعربى ، وبعد اعلان مصر الأخوان منظمة إرهابية وكذلك السعودية والأمارات بقيت قطر على دعمها للأخوان ، واستدعى الأمر اجتماع فى الرياض فى شهر نوفمبر من العام الماضى ، حضره الأمير تميم وتم الاتفاق على تعديل قطر لمواقفها التى تضر بأمن الخليج وتعتبر خروج عن سياسته وكذلك التزام قطر بعدم مساندة الأخوان وطردهم من أرضها ، ولكن لم يحدث أى تحسن فى الموقف القطرى مما أدى لسحب السعودية والأمارات والبحرين لسفراءها من قطر فى مارس الماضى ، وتدخلت الكويت كوسيط لرأب الصدع ، وتم الأتفاق على أن تلتزم قطر بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المجلس بشكل مباشر أو غير مباشر، وعدم دعم كل من يعمل على تهديد أمن واستقرار دول المجلس من منظمات أو أفراد، سواء عن طريق العمل الأمني المباشر أو عن طريق محاولة التأثير السياسي ودعم الإعلام المعادي.
وجاء اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي على مدار أسبوع فى جدة والذى بدأ يوم 13 أغسطس الحالي،ليتابع مدى تنفيذ قطر لهذا الاتفاق من عدمه ، وتم وضع خطة زمنية لذلك أنتهت دون نتائج إيجابية .
وعليه فالأجتماع الدورى لوزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي، المزمع عقده مع نهاية الشهر الحالى أو مطلع سبتمبر المقبل، سيكون فى غاية الأهمية ، فلن يكون أمام وزراء الخارجية سوى خيارين لاثالث لهما : الإعلان عن انتهاء الخلافات الخليجية – الخليجية، مما يمهد لعودة السفراء والعلاقات إلى سابق عهدها مع قطر ، أو طرد قطر وتعليق عضويتها فى مجلس التعاون الخليجى وتطبيق عقوبات عليها .
وأى متابع لمواقف قطر الأخيرة الغير مبالية سيدرك أن هذه الدولة الصغيرة المصابة بعقدة ” لن أعيش فى جلباب أبى ” مازالت تتخبط فى فترة المراهقة ، وأنها لن تعود لصوابها قريبا اتقاءا لغضبة الأشقاء فى مجلس التعاون الخليجى ، وقطر لاتدرى أنها بذلك تنفذ حرفيا استراتيجية تفتيت المنطقة وزرع الفتن الداخلية والتى ستكون ضحيتها مستقبلا ، لأنها تتصور أنها وحدها التى ستنجو من الطوفان … ولكن ده عشم أبليس فى الجنة .
عن المصري اليوم