لو تشاجرت عائلتان كبيرتان في بلد من بلدان العالم النامي، أو أي مكان آخر يكون لهما نفوذ فيه، فإن أمريكا، خصوصا الأجهزة السيادية فيها، لن تنام حتى تستفيد من هذه المشاجرة، وتسعى إلى أن تحول نتيجتها لصالحها، ضمن برنامج الفوضى الخلاقة، وخوفاً على الأمن القومي الامريكي. هذه هي العقلية الأمريكية الحاكمة باختصار شديد، وهذا هو فهمها للأمن القومي الامريكي مهما كان متفوقاً، ومهما كانت أمريكا هي القوة العظمى الوحيدة في العالم كما هو واقع اليوم.
أشارت بعض الصحف المصرية يوم الخميس الماضى 13/2/2014، الى جلسة من جلسات الاستماع في الكونغرس الامريكي مؤخراً. كانت تلك الجلسة مخصصة لدراسة الوضع الأمني في مصر، واحتمالية أن يمتد أثر ذلك الوضع الأمني وحرب الارهاب الحالية فيه، الى أمريكا فيهدد الأمن القومي فيها، وهذا هو الخط الأحمر عند الأمريكان.
الخط الأحمر لتهديد الأمن القومي في أمريكا، في العقلية أو الادارة أو الاستراتيجيات الأمريكية، يمتد حتى يشمل العالم كله، بما في ذلك إنتاج المواد الأولية التي قد يحتاج إليها، في ظن الأمريكان ودراساتهم، الحفاظ على الأمن القومي، فتستحوذ على تلك المواد، أو تراقب الاستهلاك لتلك المواد حتى في الدول المنتجة، وقد لا تسمح لتلك الدول باستخدامها أو استهلاكها بالكلية. لا يقتصر هذا الأمر على البترول وحده، بل يمتد الى كل المواد الخام، خصوصا النادرة ومنها بعض المعادن، ومن أهم تلك المواد اليورانيوم، إذ هو أحد تلك المواد التي يحتاج إليها العديد من الصناعات الاستراتيجية، والمطاط كذلك، على سبيل المثال لا الحصر. لجنة مكافحة الارهاب والمخابرات بالكونغرس الامريكي عقدت تلك الجلسة التي تحدثت عنها الصحف، حيث تباينت الآراء في المناقشات، ولكنها في الغالب الأعم مالت الى توجيه بعض انتقادات الى السياسة الأمريكية والطلب اليها بالضغط على مصر، ومن ذلك تعليق المساعدات الامريكية لها.
شارك في المناقشات عدد كبير من خبراء محاربة الارهاب، وخبراء العلاقات الدولية ومنها العلاقات بين مصر وأمريكا، كما شارك فيها خبراء صهاينة لا يهمهم إلا أمن إسرائيل، وليدة الحركة الصهيونية مهما فعلت بالآخرين من أهل فلسطين من قتل وتشريد وطرد وحرق حتى للأشجار، وبناء مستوطنات جديدة، ومخالفة معظم قرارات الأمم المتحدة من دون عقاب، لأن الحماية الأمريكية والشراكة الاستراتيجية بينهما، التي لن تفوقها شراكة أخرى حتى التي بينهم وبين دول الخليج – منبع البترول ومنجم الخيرات كلها – تحتم ذلك عليهم.
طبعا هذا القول ينطبق أساسا على الإدارات المتعاقبة على حكم أمريكا منذ التسعينات من القرن الماضي، خصوصا أصحاب البيت الأبيض وبطاناته العديدة، ويتميز الكونغرس والسينيت، كما تتميز معظم مراكز الأبحاث والجامعات بالرؤية الأصوب والنقد والنصحية التي يستفيد منها البيت الأبيض، ولكنه يهملها أحيانا وتحدث بسبب ذلك كوارث كثيرة.
أقوى المناقشات تبنت وجهات النظر التالية. النظرة الأولى في المناقشات حملها ستيفن كوك، ويرى أهمية، بل وضرورة، الاشتراك مع مصر والتعاون معها في محاربة الارهاب، خصوصا بعد إسقاط الطائرة الحربية فوق سيناء مؤخراً. ويرى الفريق الذي يؤيد ستيفن كوك ضرورة طمأنة مصر جيشا وحكومة وشعبا، بأن أمريكا تقف الى جانب مصر بقوة. وهذه المجموعة ترى أيضا أهمية التعاون مع الجيش المصري، وتوفير المعدات والأدوات، والتكنولوجيا المطلوبة، لمحاربة الارهاب الذي تتعرض له مصر حاليا.
النظرة الثانية التي مثلها توماس جويسلن، هي أن ما يجري في مصر حاليا عمليات إرهابية، خصوصا في سيناء، وهذا في حد ذاته خطر داهم على أمن إسرائيل. لا يهم جويسلن ومن على شاكلته أمن مصر، بل الخوف كل الخوف على أمن إسرائيل، طبعا مع الخوف على الأمن القومي الامريكي أولا أو ثانيا.
النظرة الثالثة التي حملها بيتر كينغ، ترى أن ما يحدث في مصر حاليا هو عمليات إرهابية وتشكل خطراً على المنطقة بأكملها، ولكن الخطر الذي نبه إليه كينغ هو الخطر على الأمن القومي الامريكي، وهذه النظرة الثالثة تتفق مع المقدمة التي أثبتها في صدر هذا المقال، طبعا هذه النظرة لا تهمل الأمن الاسرائيلي أيضا. وقد كان كينغ حازما في كلامه حيث شددَّ على ضرورة وأهمية الدعم الامريكي لمصر في هذه اللحظة الحرجة من محاربة الارهاب، بل اكثر من ذلك فإنه طالب الحكومة الأمريكية بضرورة محاربة الشبكات الجهادية في سيناء، مذكراً بمقولات أيمن الظواهرى و’القاعدة’، عن ضرورة تكثيف عمليات ‘القاعدة’ في مصر باعتبار أن الحكومة أو الادارة المصرية إدارة كافرة.
يتفق أهل النظرات الثلاث على عدة أمور منها، ضرورة وقوف الأمريكان الى جانب مصر في محاربة الارهاب. ليس هذا الوقوف طبعا أو بالضرورة في حب مصر ولا الانسانية، ولا محاربة الارهاب في جوهره، ولكنه يأتى خوفا على أشياء أخرى في مقدمتها رفاهية الأمريكان وقوة الوطن، الرفاهية والقوة ضمن الأمن القومي الامريكي. وتناولت المناقشات أيضا ضمان تدفق المعلومات الأمنية بين مصر وأمريكا وإسرائيل، والحفاظ على الملاحة واستقرارها في قناة السويس، والحفاظ على ما يسمى باتفاقية السلام، والحفاظ على أمن القوات والقواعد الأمريكية حتى في دول الخليج. يعني كلها مصالح للأمريكان أو إسرائيل أو كليهما، وجزء منها عن التعاون مع مصر في إطار حرب الارهاب. تحدث المشاركون كذلك في جلسات الاستماع عن ضرورة دعم الاستقرار في مصر. لا يستطيع أي من المشاركين في هذه الجلسات أو الندوات المهمة مهما كانت مكانته العلمية او القومية، أن يوجه انتقادا واضحا وصريحا الى اسرائيل، إلا في النادر .
الأمريكان أيها القراء، يدعمون الاستقرار على طريقتهم في الهيمنة والاستحواذ، وضرورة رضوخ الطرف الآخر، وإلا فإن عدم الاستقرار، وإثارة الفوضى بل وخطف حتى الرؤساء والاغتيالات أولى، والأموال المرصودة للعمليات السرية في أمريكا كبيرة لدعم عدم الاستقرار وليس الاستقرار، ربما تحت غطاء ما يسمى بالفوضى الخلاقة، ولا أدرى متى كانت الفوضى خلاقة. أمريكا تراقب المشهد في العالم كله، خصوصا مصر حاليا بدقة، ولا ترى أن تخرج مصر من الأزمة إلا وللأمريكان يد في ذلك، ومن هنا تأتي أهمية زيارة المشير السيسي والوفد المرافق له الى روسيا، وإن كانت روسيا اليوم غير الاتحاد السوفييتي قبل انهياره في الامكانيات والمكانة الدولية. إن أي اتفاقات مصرية كالتي توصل إليها المشير السيسي والوفد المرافق له أو شراكة مع الاتحاد السوفييتي سيكون لها أثر واضح على مستقبل العلاقات مع أمريكا والغرب عموما.
انهار الاتحاد السوفييتي في معارك أفغانستان التي احتلها الأمريكان في ما بعد، وفرضوا هيمنتهم عليها بعد خروج السوفييت وتفتيت إمبراطوريتهم، ولم تشهد أفغانستان مع احتلال الأمريكان نفس الزخم الجهادي الاسلامي ضدهم في أفغانستان، كما كان ضد السوفييت، فهل الاحتلال الامريكي أرحم من الاحتلال السوفييتي للأفغان؟ وأين كل من شارك في الجهاد في الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي؟ هل زحف بعضهم الى المنطقة العربية، ليثيروا فيها ما أثاروا من قتل ودمار وصراع، أدى الى التدخل الامريكي في المنطقة، وأدى الى صراع مستمر لم ينتهي حتى اليوم في العراق وسوريا، ويستهدفون مصر اليوم.
طبعا الحديث عن الأمريكان يعني الإدارات الأمريكية منذ بوش الأب مرورا بكلينتون ثم أسوأ رئيس حكم أمريكا وهو جورج بوش الابن، ثم وقوفا عند باراك أوباما الذي وعد وعودا كانت على غرار وعود الرئيس المخلوع مرسي في مصر، أما الشعب الامريكي فهو من أطيب شعوب الغرب وأجهلها بالجغرافية والتاريخ. ولا أدري من أين يأتي هؤلاء الحكام أو كيف يختفون وقتا طويلا حتى يختارهم الشعب، ثم يظهرون على الطبيعة التي نراهم عليها بلا غطاء. لو كانت الإدارات الأمريكية عاقلة لما خسرت الحب الذي كان يبديه معظم العالم لأمريكا قبل الثمانينات، ولوفرت أمريكا على نفسها وعلى الأمريكان المبالغ التي أنفقتها لتحسين صورتها بعد أن شوهها الاحتلال والهيمنة الأمريكية وشوهتها الحروب، خصوصا في أفغانستان والعراق وسوريا
الأخبار اللبنانية