رغم تراجع غيداء ريناوي زعبي، النائبة العربية عن حزب «ميرتس»، عن قرارها بالانشقاق عن الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، عقب لقائها مع وزير الخارجية يائير لابيد، إلا أن الائتلاف الحاكم ما زال يفتقد الأكثرية البسيطة في الكنيست، وقد كان إعلان زعبي عن انشقاقها مناسبة لتأمل واقع وحال حكومة نفتالي بينيت – يائير لابيد، كذلك كان فرصة لاستطلاع الرأي العام الإسرائيلي ونوايا مواطني دولة الاحتلال الانتخابية، فيما لو جرت الانتخابات هذه الأيام، حيث تصدّر حزب الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو الانتخابات المحتملة بعدد من المقاعد يساوي 36 مقعداً، فيما كان مجمل ما ستحصل عليه أحزاب اليمين، سواء تلك التي ضمن حكومة بينيت – لابيد أو التي في المعارضة، من المقاعد النيابية 60 مقعداً، فيما قدّر استطلاع الرأي أن تحصل أحزاب الوسط واليسار، أي «هناك مستقبل» و»أزرق – أبيض» و»العمل»، 34 مقعداً مجتمعة، فيما ستحصل الأحزاب الدينية «شاس» و»يهوديت هتوارة» على 15 مقعداً، فيما يحصل العرب بقائمتَيهما الحاليتين على 11 مقعداً.
أي أن نصف المجتمع الإسرائيلي صار يمينياً ويمينياً متطرفاً، فيما نصفه الآخر موزع على اتجاهات مختلفة، وهذا ما يفسر استحالة أن تتغير إسرائيل دون أن تظهر وقائع سياسية في محيطها، خاصة على الجانب الفلسطيني، تؤثر داخلياً على توجهات الناخبين، بما يحد من السياسة اليمينية المتطرفة التي أغلقت أبواب الحل السياسي طوال ثلاثة عقود مضت، والتي ما زالت تسبب التوتر في الأرض الفلسطينية، بل وتحيط إسرائيل نفسها بعالم من العداء تسبّبه هي لنفسها، ويبقي عليها دولة غير طبيعية أو بمعنى صريح دولة غير قابلة للتعايش مع محيطها العربي والإسلامي في الشرق الأوسط.
هذه الحالة التي عبّر عنها كل من أيهود باراك قبل أيام، في لقاء له مع صحيفة «يديعوت أحرونوت» بقوله: إنه يحذّر من زوال دولة إسرائيل، وبيني غانتس الذي عبر عن قلقه على مستقبل إسرائيل وفق القناة «14» العبرية، وذلك في المحادثات المغلقة بسبب تركيبة الحكومة والمعارضة، خاصة أن الحكومة الحالية اضطرت للاستعانة بالقائمة العربية الموحدة برئاسة منصور عباس، حتى تنجح في إزاحة نتنياهو عن مقعد رئيس الحكومة، وتشكيل حكومة من ثمانية أحزاب تشكل خليطاً سياسياً متناقضاً من أحزاب اليمين والوسط واليسار.
والحقيقة تفرض على كل إسرائيلي أن يشعر بالقلق الحقيقي، ليس لأن هناك من يهدد وجود إسرائيل من خارجها، وليس لأن هناك من يتربص بها في الخارج بنوايا خبيثة في نفسه، بل لأن التهديد الحقيقي لوجود إسرائيل إنما يكمن في داخلها، في طبيعة تكوينها المنافي لمنطق العصر، ولما يسير نحوه العالم كله، من تعايش ومساواة بين البشر، بل إن إسرائيل بطبيعتها العنصرية ولكونها دولة احتلال تتناقض مع الغرب بالتحديد أكثر من غيره، الغرب ومنه بالطبع الولايات المتحدة نفسها التي دعمت وما زالت تدعم وجود إسرائيل وسياستها، وتحافظ على تفوّقها العسكري على كل دول الجوار.
العالم كله، والغرب منه بالتحديد، يقبل الهجرة من مواطني كل دول العالم لأسباب سياسية وإنسانية، وفي الغرب ما يغري الملايين من مواطني دول العالم الثالث خاصة بالهجرة إليه؛ نظراً لما يتمتع به من قوانين مواطنة، ومن حقوق إنسان، لا تفرق بين إنسان وآخر، بل يمنح المواطنة بشروط سهلة وميسّرة، أما إسرائيل التي تدعي أنها دولة ديمقراطية، فهي في ظل اليمين واليمين المتطرف انزاحت كثيراً باتجاه أن تكون دولة دينية تقول بتفوق اليهود على غيرهم، والمجتمع الإسرائيلي/اليهودي لا يعترف بالمساواة بين مواطنيه بعد 74 سنة على إقامة الدولة، خاصة بين اليهود والعرب، وهكذا فإن إسرائيل لا تقوى على التعايش لا في داخلها ولا مع جوارها، إلا وفق منطق تفوّق اليهود على العرب في الداخل، وتفوّق إسرائيل على دول الجوار، وهذا كان دائماً منطق الدول الفاشية، التي حاربت العالم وحاربها العالم.
لا حل لإسرائيل إذاً إلا بتفكّك نظامها العنصري وزوال احتلالها، ولعل شعوب العالم بدأت تدرك رويداً رويداً هذه الحقيقة أكثر من حكوماتها، فقد تزايد رفع الشعارات المنددة بعنصرية إسرائيل واحتلالها في التظاهرات الشعبية التي تجوب دول العالم، ومنها الولايات المتحدة وبريطانيا، والتي تذكر بما كانت ترفعه التظاهرات المنددة بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
السؤال هنا، يعود بنا إلى الوراء طويلاً، وهو: لماذا قاومت شعوب الدنيا نظام الفصل العنصري؟ والجواب بالقطع له علاقة بكون العالم يضيق ذرعاً بمثل تلك الدول التي تكون محكومة بتلك الأنظمة، لأنه يعرف أن تهديدها لا يقتصر على شعب بعينه فقط.
وشعوب الشرق الأوسط، وليس الشعب الفلسطيني فقط، تدرك حقيقة إسرائيل المتسارعة صوب الفاشية، وليس للأمر علاقة بمعاداة السامية، كما بدأ المتظاهرون في الولايات المتحدة يقولون، فالمطالبة بالعدالة للفلسطينيين وحقهم في العيش بكرامة لا علاقة له بذلك الادعاء، وحتى يصحو بعض العقلاء في إسرائيل، بات لا بد من انتفاضة شعبية فلسطينية، تضع حداً لكل ما وقع من تحوّل باتجاه اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل، والذي يقودها باتجاه الهاوية منذ ثلاثة عقود خلت.
يقع على عاتق الشعب الفلسطيني عبء تحرير نفسه من ربقة الاحتلال، ومن وطأة النظام العنصري الإسرائيلي، لكنه لن يجد نفسه وهو يقاوم وحده، فمعظم شعوب المنطقة وكل شعوب العالم تتعاطف معه وتؤيده في مسعاه، شرط ألا يقع هو فيما ينكره على عدوه، أو أن يرد على نفي الآخر بنفس المنطق.
والغريب الآن في الأمر هو إصرار حكومة إسرائيل الحالية على متابعة الطريق ذاته الذي جربته كثيراً، وهي بعد أن واجهت شعباً قاوم محاولة متطرفيها العنصريين في شهر رمضان الماضي، أي قبل أسابيع، اقتحام الأقصى وتقديم القرابين وتنفيذ مسيرة الأعلام بمسار يجوب باب العامود والقدس القديمة المحتلة، ها هي تعاود الكره بالإعلان بعد خمسة أيام عن إطلاق تلك المسيرة، التي أقل ما يمكن وصفها به بأنها إرهاب التطرف تجاه شعب أعزل محتل، وكأن حكومة بينيت تعتقد أن رفض الفلسطينيين للتطاول الفج على حقوقهم الدينية والوطنية، كان أقوى في ظل الجو الإيماني المرتبط بالصوم، وليس بدافع ثابت مبعثه حقهم الطبيعي في الحياة، وأن ما رفضه الفلسطينيون في رمضان يمكن أن يقبلوه اليوم، وما زالت حكومة إسرائيل، ليس فقط بدافع خوفها من السقوط، بل بسبب قناعتها السياسية، تصر على ممارسة إرهاب الدولة والتصريح بالقتل، كما يمارسه المجرمون، بدافع عنصري، ولا تقدم على ما يمكن له أن يحررها من الخطر الوجودي المتمثل بتوغل العنصرية الفاشية بين صفوفها، ولو كان هناك من يشفق على مستقبل مواطنيها، لتوجب عليه أن يضغط عليها من أجل أن تشفى من مرض العنصرية قبل فوات الأوان.