لم تتوقف معاني الانتفاضة يوما عن الحضور والتجلي في حياتنا اليومية التي لم يعد فيها ما يخفى فأمام أعيننا نرى ما يراه الآخرون ونختلف فقط في تفسير بعض الأحداث والوقائع مع التحليل كل من زاويته الخاصة.
ان الانتفاضة الثالثة التي يقولون عنها الكثير والتي أبدع كتابنا كثيرا في توقعها ووصف الأسس التي ستقوم عليها وأهدافها وما سيأتي بعدها موجودة في قلوبنا تحرضنا كي نرفض عيشتنا المليئة بالقهر والظلم والجور والديون وارض تسرق كل يوم ورجال يموتون في سجونهم.
ليس هذا المهم إنما المهم هو مقدار الاستفادة من كل هذه التحاليل والتصورات مع الربط دائما بالماضي وما سبق من انتفاضات سواء كانت شعبية او مسلحة .
ان ما نتحدث به الآن هو حديث سابق يجب تدارسه مرة اخرى للوصول الى إجماع يمكّن من التوافق على طريقة النضال المناسبة للمرحلة القادمة .
لقد توصل البعض في انتفاضة الحجارة الأولى الى أنها أي الانتفاضة كانت من صنع اسرائيل واعتمدوا في ذلك على الزمن المتساوي تقريبا بين الاحداث العظيمة الثلاث وهي نكبة عام 48 ونكسة عام67 وانتفاضة عام 87 والتي تعادل حوالي عشرون عاما مع احتمال الصدفة ومع عمليات اسرائيل العدائية اليومية المستمرة على طول سنين احتلالها وهذا يدلل على تخطيط إسرائيلي يمتد لعشرات السنين القادمة للقضاء على الشعب الفلسطيني من خلال افتعال حدث ما شديد التأثير والخطورة كل عشرون عاما يعطي الجيش الإسرائيلي الفرصة لقتل اكبر عدد ممكن من الفلسطينيين .
وفي تلك الأيام احتدم النقاش حول احتمال ان تكون الانتفاضة قامت بناء على تخطيط مسبق او بدأت كهبة جماهيرية ثم بدأ توجيهها فيما بعد ، لكن الظروف في ذلك الوقت كانت تختلف عن الواقع الحالي خاصة بعد ان نتج عن الانتفاضة الأولى رجوع قيادات الشعب الفلسطيني الى الوطن وتشكيل السلطة الوطنية ، وقبل ذلك كان التعقيد هو السمة البارزة لحياة الشعب الفلسطيني من حيث تداخل حياتهم مباشرة مع حياة جيرانهم اليهود وكان التناقض في العلاقات يغلب أكثر من التناغم خاصة كون الضفة الغربية وقطاع غزة أسواق إسرائيلية والأيدي العاملة الفلسطينية الرخيصة هي التي تبني اسرائيل وفي نفس الوقت تعمل على هدمها من خلال العمل العسكري السري والمقاومة بكافة أشكالها والتي أفشلت الكثير من أهداف اسرائيل أهمها محاولة اسرائيل استبدال القيادة الفلسطينية بقيادات محلية تتشكل من روابط القرى والمخاتير والعملاء الفلسطينيين لتسهيل بيع الأراضي وقتل بذور العمل الوطني بإسقاط اكبر عدد ممكن من جميع فئات المجتمع الفلسطيني في فخ العمالة ومن ثم التحييد والانكماش.
ان فترة العشرين عاما ثبت حضورها وصحتها ايضا مع الانقسام الداخلي الفلسطيني وقتل عدد كبير من أبناء الشعب الفلسطيني خلال أعوام 2006-2007 وما تلاه من أحداث استمرت حتى هذه اللحظة وهذا يعني ان عام 2027 سيشهد أيضا حدثا جللا ان استمرت الحالة وميزان القوى على ما هو عليه الآن.
ولكن هذه المرة لم يكن عمل اليهود ظاهرا ومباشرا كأعوام 48 و 67 و 87 بل ظهر كاقتتال فلسطيني – فلسطيني ، ومع اننا كنا نرى المسلحين الملثمين أيامها في غزة أثناء الاقتتال الا اننا لم نكن على يقين من كونهم يهودا او عربا ، ولم نستطع ان نحدد من قتل المئات من أبناء فتح وحماس أثناء العمليات العسكرية للانقلاب.
ان نضالنا اليومي يشكل انتفاضة يومية مستمرة دون تحريض او تشجيع من احد وصمودنا على سياسات التجويع والحصار يثير جنون المحتل ويكشف زيف إعلامه وزيف حقه في احتلال أرضنا على أنها وطنا له ولا نحتاج الى تكرار الحديث والتهديد بانتفاضة ثالثة او رابعة ما دمنا نرفض الاعتراف ونرفض الاستسلام والركوع.
من جهة اخرى يمكن ان تكون الانتفاضة التي يُروج لها من مصلحة الكثيرين الذين اعتدنا على استيعاب وفهم مقدرتهم على الاصطياد في الماء العكر واستفادتهم من المصائب والأزمات التي يمر بها المواطن الفلسطيني مثل ما استفادوا من سابقتها ففي نطاق الوظيفة العمومية حصل الكثيرون أثناء الانتفاضة الثانية على الدرجات والترقيات والمناصب بغفلة من الآخرين ودون حسيب او رقيب والتفوا على القوانين واللوائح ووقّع لهم الوزراء والقريبين من الرئاسة ومن القوى الحاكمة ، وكل ذلك على حساب غيرهم وعلى حساب الأحداث التي انشغل بها بقية الشعب ، كذلك استفاد منها الكثير من التجار ورجال الأعمال وحصل الكثيرون منهم على الامتيازات والحظيات وانتشرت تجارة الأسلحة واستفاد منها أيضا كل من اهتم بمصلحته الشخصية وترك الجهاد والنضال لمن استطاع ذلك ولمن ضاق ذرعا بما آل إليه الوضع المليء بالواسطة والمحسوبية وبما وصل إليه الكثيرون من الغنى الفاحش وبمن استغل وضعه التنظيمي او الأكاديمي او منصبه القانوني او مسؤوليته عن المال العام وعن المقدرات الوطنية . وكل ذلك حصل تحت القصف والحصار وأثناء اجتياح المدن . وفي نهاية الأمر كان لا بد لإسرائيل ان تجير كل ما حصل لمصلحتها ومن خلال أساليبها الملتوية وإعلامها القوي بعد ان قتلت وشردت وهدمت وعاثت في الأرض فسادا وحصلت على التأييد العالمي شبه المطلق حتى الآن وهذا واضح من مقدرتها على إجبار أمريكا على التأثير على كل الدول العربية والأجنبية بقطع الأموال والإمدادات عن الشعب الفلسطيني والضغط على القيادة الفلسطينية للركون وتنفيذ الأوامر بما يخدم مصلحة اسرائيل الكبرى .
ان اسرائيل تعمل على احتلال كل فلسطين وطرد كل سكانها الأصليين منها بتصميم وبتواتر وتخطيط بطيء نسبيا و ودون كلل او ملل وهذا ما يجعلنا نؤمن بفكرة العشرين عاما لان أساليب اليهود معروفة وناجحة دائما من حيث قدرتهم على الإيهام والخداع والغش وقلب الحقائق وفي النهاية يعملون على تجيير الأحداث ويحافظون على تسلسلها الزمني للوصول الى الهدف الذي قاموا بالتخطيط له منذ عشرات السنين.
ان الانتفاضة القادمة موجودة أصلا والتوقع هو في تطوير أحداثها لتشمل التظاهرات ومهاجمة حواجز الاحتلال ورجمها بالحجارة وقد يتطور الأمر الى مواجهات مسلحة مما قد يعطي المبرر لقوات الجيش الإسرائيلي لاقتحام المدن والبلدات الفلسطينية التي تقع تحت السيطرة الفلسطينية ومن ثم المواجهة مع قوات الأمن الفلسطيني وقد يحدث الأسوأ ونخسر الكثير من شبابنا وما بقي لنا من بنية تحتية غير مؤهلة أصلا .
كان لا بد من التفكير مليا والتخطيط مسبقا لكل ما له علاقة بمستقبل الشعب الفلسطيني بدلا من استحضار سيناريوهات تدل على التخبط وعدم الاستقرار الذهني وكان لا بد من التحضير لاقتصاد قوي يساعد ويعزز الصمود بدل الاعتماد على المساعدات الخارجية من العرب وغيرهم من الشعوب الأوروبية الصديقة التي تمنحنا باليمين وتزود اسرائيل بالأموال المضاعفة والعتاد والأسلحة كي تبقى القوة الأولى في المنطقة لتقمع حركات التحرر وتساعد في الاستيلاء على ثروات العرب من البترول والمياه والمعادن. ان أصدقاء اليوم هم أعداء الغد والاعتماد على العلاقات المتينة لن يمنعها من التغير بالاتجاه العكسي وتمنع وصول المساعدات اللازمة كي يعيش شعب بأكمله ليس له غير هذه المساعدات دون إنتاج محلي ودون وحدة اقتصادية وسياسية كاملة يقيه غضب أمريكا وإطاعة العرب لأوامرها.
ان انتفاضة اخرى دون تخطيط سليم ودعم شعبي كامل يقتنع بصدق أهدافها ويؤمن بانتصارها وسيرها بالاتجاه السليم يشارك فيها الجميع دون أجندات خاصة ودون تشكُل فئة ما تستغل سلطاتها ومواقعها القيادية لمصالح خاصة سيقود الى ان تكتسحنا جنازير الدبابات الإسرائيلية مرة اخرى كي تعيدنا الى الوراء فيما تتقدم اسرائيل الى الأمام وتنهب وتستولي على الأرض وتبني المزيد من المستوطنات وتثبت واقعا جديدا قد نمضي عشرون سنة اخرى في التفاوض على معرفة حدوده .
وأخيرا لا بد لنا من ان نكون موضوعيين في الإجابة عما يجول في خواطرنا من غموض ما ستأتي به الأيام القادمة في حال اندلعت انتفاضة كالتي يتحدثون عنها فهل ستكون بالفعل الفلسطيني او برد الفعل وهل ستشبه في احداثها الانتفاضة الثانية والتي سقط خلالها حوالي 4400 شهيد وحوالي 48000 جريح وهل سنعود الى الفلتان الامني وعدم الاستقرار؟ وفي نفس الوقت هل تحتاج اسرائيل الى مبرر قوي كي تهمل أسرانا وتنكل بهم طوال هذه المدة ام هو فقط لجر الرجل لاعمال عنف للتخلص من ازمة واستحقاقات مضى عليها الوقت ؟ وهل بديل التوجه للمحافل الدولية بخط موازي مع التكتل الشعبي والفعاليات الحالية دعما للأسرى هو الحل البديل للإفراج عنهم؟ وهل سيتم تحرير أسرانا من السجون الإسرائيلية في حال نشوب أية أعمال تدل على انتفاضة دعما لهم أم ستمتلئ بالمزيد غيرهم ونعود للمطالبة بهم من جديد؟.