التعقيد الذي ينطوي عليه المشهد المصري حالياً لا يسمح بالوصول إلى خلاصات سهلة. يمكن التأكّد من هذا الانطباع بمجرّد رصد الاتجاهات المهيمنة، أو «ذات التأثير الأكبر على الأرض». الاتجاه الرئيسي الآن والذي يمتلك أكثر من سواه أدوات الهيمنة و»السيطرة على المجال الاجتماعي» هو السلطة المدعومة من الجيش والبيروقراطية الحكومية ورجال الأعمال و»قطاعات عريضة» من الشعب بما في ذلك الفقراء والطبقات المهمّشة (من جملة التناقضات الحاصلة أن يكون أصحاب الرساميل والفقراء «معاً» في التحالف الداعم للسيسي!).
لحدّ الآن لا يجد هذا الاتجاه «مقاومة» كفيلة بجعله يتآكل أو يفقد شعبيته لدى الناس، رغم كلّ العنف الذي يمارسه عبر أجهزة القمع ضدّ خصومه، وخصوصاً الثوريين الذين وجدوا أنفسهم على قارعة الطريق بعد الانتهاء من تحالف 30 يونيو. التحالف نفسه لم يعرف كيف يحتوي هذه التناقضات – لا سيما أنها حدثت بين أطراف «ائتلفت معاً» لفترة وجيزة ضدّ الإخوان -، وظلّ يعمل بمنأى عن الوقائع التي فرضت المواجهة بين الجيش والثوريين، وأفضت إلى العزلة التي يعاني منها الأخيرون تجاه قاعدة السلطة الاجتماعية. بهذا المعنى فإنّ الثوريين يؤثّرون في المشهد تأثيراً جدّياً، ولكنهم لا يقودونه كما كانوا يفعلون غداة موجة يناير. هم في أفضل الأحوال يمثّلون قوّة ضغط رئيسية تمنع النظام من توسيع قاعدة هيمنته على أساس مغاير لما اتّفق عليه في يناير ويونيو. لا يملك الرفاق أن يفعلوا أكثر من ذلك حالياً، وإذا استطاعوا بالفعل ممارسة رقابة لصيقة على عمل السلطة فهذا يعني أنّ تأثيرهم يتزايد وليس العكس. السلطة نفسها باتت تخشى منهم ومن تأثيرهم، رغم علمها «بمحدودية قدرتهم» على تكوين تيّار عريض يكسر الاستقطاب الحاصل حالياً بينها وبين الإخوان. بالنسبة إليها الاستقطاب ضرورة للإبقاء على المسافة الموجودة بين الشعب والإخوان، إذ إنّ خطاب «مكافحة الإرهاب» لم يعد يلبّي الحاجة لخلق تناقضات «صورية» بين المصريين خارج المجال الاقتصادي الاجتماعي. ووجود النشطاء في هذا الحيّز خطير لأنه يحضّ الناس على التفكير أكثر في هذا التناقض، وفي ما إذا كان ضرورياً للإبقاء على مكتسبات 30 يونيو. هذه الأخيرة تهمّ الناس بالفعل، ولكن ليس إلى الحدّ الذي يجعلهم يغضّون الطرف عن معاودة العمل بشروط تاريخية منقضية (ظهور رموز نظام مبارك على الساحة جديد).
«خروج المهمّشين
على السلطة»
سيساعد الكتلة الثورية المعزولة حالياً
تهمّهم أيضاً عودة الأمن، وهذا سبب كاف لبقائهم على مسافة واضحة من احتجاجات الإخوان التي بدأت تأخذ منذ فترة طابعاً «إجرامياً» ومعادياً للمجتمع. لا خوف إذن على «مكتسبات» 30 يونيو من الاندثار، فالناس أصبحوا يعرفون ماذا تريد بالضبط، ولذلك استفتت على الدستور وانتخبت السيسي بغالبية واضحة، لكن يبدو أنّ السلطة التي تقود هذا الاتجاه ليست على قدر توقّعات الشعب وآماله. فهي لا تزال تتصرّف برعونة شديدة تجاه المعارضين، فتعتبر مثلاً أنّ فتاة في سنّ العشرين كسناء سيف – لا بدّ من التنويه إلى شجاعة هذه الشابة وتفانيها في الدفاع عن المعتقلين – (أو حتّى ماهينور المصري الأكثر نضجاً ورصانة) أخطر من أن تترك لوحدها، هي وباقي النشطاء، في حين أنها لا تتحرّك بالحسّ الانتقامي ذاته تجاه بعض احتجاجات الإخوان. بالطبع لا يلق عنف السلطة تجاه الثوريين وخصوصاً الشباب منهم اعتراضاً كبيراً من الغالبية الشعبية التي أتت بالسيسي رئيساً، لكن مع الوقت سيصبح تقبّل هذا العنف أصعب، وخصوصاً مع تفاقم المشكلات الاقتصادية التي وعدت السلطة بحلّها. بقاء الأمور على ما هي عليه أو انزلاقها إلى أوضاع أسوأ سيضيّق هامش الحركة أمام السلطة، ويحرمها من تأييد الكتلة المهمّشة التي أوصلتها إلى الحكم، وهذا بالضبط ما يعوّل عليه الثوريون، على اعتبار أنّ خطابهم موجه بالأساس إلى هؤلاء الذين تتهدّدهم حالياً خطط رفع الدعم عن المحروقات (بالأمس فقط زادت تعرفة النقل العامّ والخاصّ أكثر من 150%، وبدأ التململ بالحدوث فعلاً عبر إضرابات سائقي التاكسي وشكوى الناس من الزيادة المحتملة على الأسعار جرّاء الارتفاع الحاصل). «خروج المهمّشين على السلطة» سيساعد الكتلة الثورية المعزولة حالياً، وسيعيد إدماج مطالبها ضمن التيار العريض للشارع المصري، وهو ما افتقدته طيلة الفترة الماضية، وخصوصاً حين أبدت بحماقة شديدة استعداداً لملاقاة الإخوان في تحرّكاتهم واحتجاجاتهم العنيفة. يبدو أنّ الثوريين بحاجة إلى من يذكّرهم بشهادات علاء عبد الفتاح ورشا عزب وآخرين عن أحداث النهضة والمنيل وبين السرايات. سكّان هذه المناطق الشعبية في القاهرة نالوا الحصّة الأكبر من جرائم الإخوان عقب عزل مرسي، ولكن مع الأسف ما من أحد يتذكّر هذه الوقائع اليوم، فجرائم السلطة ضدّ القاعدة المفقرة للإخوان أصبحت كثيرة هي الأخرى، وتكفّلت بمحو آثار ما ارتكبه الإخوان ضدّ فقراء القاهرة ومهمّشيها. حصل ذلك أيضاً لأنّ الخطاب الحقوقي بدا متناغماً مع النغمة الغربية التي لا ترى في مصر إلا عنف السلطة، وتتجاهل على الدوام ما يفعله الإخوان حين يعجزون عن مواجهة النظام. اليسار ومن ضمنه معظم أصدقاء ورفاق المعتقلين والمعتقلات على ذمّة قضايا تظاهر مطالب اليوم بمعاودة الحديث عن جرائم الإخوان ووضعها على قدم المساواة مع جرائم ومجازر السلطة. الموقف من هذا الأمر يجب أن يكون واضحاً تماماً، وإلّا فسنشهد مزيداً من التمركز حول خطاب السلطة، وستصبح محاولات توسيع رقعة المواجهة معها صعبة جدّاً، إن لم تكن مستحيلة.
ثمّة رغبة في عزل الإخوان لدى قطاعات عريضة من الشعب، والسلطة تعرف هذا الأمر جيداً، ولذلك استغلّته على لسان السيسي وتحدّثت عن انتهاء الحقبة التي كان ممكناً فيها الحديث عن مصالحة معهم. ليس غريباً أن تتلاعب الدولة بهذا المعطى وتجيّره لمصلحتها، لكن الغريب ألا يشعر الثوريون والحقوقيون بوجوده، وأن يتعاطوا مع هواجس الناس تجاهه بخفّة شديدة. هم يعتبرون أنّ الإخوان الآن ضحايا، وبالنسبة إليهم فإنّ مظلوميتهم تجبّ ما قبلها، وتجعل كلّ ما حدث في السابق تفصيلاً أمام ما يحدث الآن في الجامعات من قمع واعتقالات جماعية. وهذا يعزّز شعور ضحايا الإخوان بأنّهم منسيّون، وبأنّ قضيتهم ليست بالقضية التي تستحقّ الوقوف عندها طويلاً. عندما يشعر جزء من المهمّشين بذلك فهذا يعني أنّ الحقوقيين المحسوبين على اليسار قد ضلّوا طريقهم ولم يعودوا مؤتمنين على حقوق الناس، كلّ الناس. لماذا مثلاً لا تعتبر جرائم بين السرايات والمنيل والمنيا و…الخ مجازر هي الأخرى على نسق ما يحدث مع جرائم النظام. ومن قال أصلاً إنّ رابعة والحرس الجمهوري هما المجزرتان الوحيدتان اللتان تصلحان كأداة للقياس أثناء الحديث عن الجرائم السياسية ضدّ الأفراد والجماعات. هل لأنّ النظام هو الذي ارتكبهما؟ أم لأنّ اليسار لم يتجاوز بعد «العقدة» الخاصّة بتعريف التناقضات التي تحكم سلوكه، وأيّها أولى بالاهتمام والوقوف عنده: الرئيسية أم الثانوية. ليس هذا كلّ شيء، فما يشعرني «بالتقزّز» فعلاً هو استعداد الرفاق في اليسار للتمييز بين الضحايا (وجلّهم من المهمّشين) على أساس الانحياز السياسي والموقف من السلطة. لن أتفاجأ مثلاً إذا بقي هؤلاء على دعمهم للسلطة التي تعاود نهبهم باسم التقشّف ومداراة عجز الموازنة، فهم يخشون من عودة الإخوان إلى الحكم، وقد يكون هذا هو السبب الفعلي لتمسّكهم بالدولة واعتبار من يعاديها حليفاً غير معلن للإخوان. لا تستطيع المطالبات بالحقوق أيا كانت أهميتها تحييد هذا العامل، أو اعتباره ثانوياً في المعركة مع السلطة، فهو يقع في صلب التصوّر الذي يحمله الفقراء والمهمّشون لدولتهم، وإذا لم يكن الثوريون متنبهين لهذه المسألة كفاية فسيصعب عليهم مخاطبة هؤلاء الناس وحضّهم على مواجهة السلطة. لا يتعلّق الأمر فقط بفكرة الأمن وأحقّية الشعب بأن يعيش ويعمل ويتنقل من دون الشعور بالخوف بل أيضاً بالإرادة الشعبية العارمة التي لا تعود قادرة على التحقّق في ظلّ وجود فصيل فاشي يزعم أنّ له الحقّ أكثر من غيره في إدارة الدولة والسيطرة على مواردها («الشرعية» بالنسبة إلى الإخوان لا تعني الأحقّية بالسلطة وإنما الرغبة بالسيطرة على الدولة وتجييرها لمصلحة «الجماعة»).
النظام عبر تصرّفه كدولة تبطش بالإرهاب وتبني «الإجماع» على أساس مواجهته يقدّم إلى الشرائح العريضة الخائفة من عودة «الجماعة» خيارات تعتبرها هي «أفضل من سواها». ورغم أنها – أي الخيارات – صوريّة بالأساس وقائمة على إجماع مصطنع وغير حقيقي، إلا أنها على الأقلّ تعد بإنهاء الوضع الأمني الذي تهجس به غالبية المصريين، وتتطلّع إلى تجاوزه في أقرب وقت. لا بدّ من حلّ هذه المسألة قريباً، إذ إنّ التيار العريض من المصريين لن يتحرّك في مواجهة بطش السلطة وانحيازاتها الاقتصادية إلا بعد الانتهاء من الهاجس الأمني. والحال أنّ مقاربة الثوريين للأمر لا تساعد في فعل ذلك بتاتاً، لا بل تعقّد الأمور أكثر حين «تنحاز إلى الإخوان» بدعوى مظلوميتهم، وبالتالي تفقد القدرة على توسيع رقعة المواجهة مع السلطة، وتبدو شكلياً (لا فعليّاً) كمن يقف في مواجهة القطاع الأوسع من المصريين. هؤلاء بدؤوا يتحرّكون ضدّ القرارت الاقتصادية المنحازة إلى الأغنياء (يجب في هذا السياق التذكير بالقرار الذي أصدره السيسي لتعيين الحدّ الأقصى للأجور والذي بدا في مضمونه وانحيازاته معاكساً لمجمل توجّهات السلطة الاقتصادية!)، ولكنهم سيبقون حذرين من توسيع إطار المواجهة طالما أنّ الطرف الآخر المعني بها لا يزال على رأيه في اعتبار الإخوان شريكاً لا بدّ منه. على هذا الأساس يمكن اعتبار المواجهة معلّقة وغير منتهية، فلا أحد يقدر الآن على الحسم، وحتّى السلطة التي أتت بغالبية شعبية واضحة تبدو عاجزة عن فعل ذلك في ظلّ المؤشرات الاجتماعية الحالية، وهي بكل تأكيد لا تصبّ في مصلحتها على المدى الطويل. بهذا المعنى تصبح – أي السلطة – عبارة عن تيار يدّعي الهيمنة في ظلّ افتقاده إلى أدواتها الفعلية. الثوريون بالمقارنة معها يملكون الأدوات، ولكنهم يسيئون استعمالها. باختصار، نحن إزاء معضلة يصعب حلّها، ولتجاوزها لا بدّ من استخدام أدوات مطابقة للواقع، لا مفارقة له. هذا هو المعنى الفعلي لليسار يا رفاق.
الأخبار اللبنانية