يجتذب الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، حزب الحرية والعدالة، معظم الانتباه في هذه الأيام عندما يتم بحث موضوع مصر. ويتدفق الانتقاد بسهولة في الوقت الذي نشاهد فيه سمعة حزب الحرية والعدالة وهي تتمرغ بسبب سياساته الطائفية وغير الديمقراطية.
لكن من الأشياء الواضحة أكثر ما يكون أن المؤسسة العسكرية لم تمس بسوء نسبياً في المعارك الاستقطابية التي تفجرت في الشهور العديدة الأخيرة. وفي الحقيقة، لم يكن ذلك من قبيل الصدفة. إنه محصلة مناورة سياسية ذكية جداً من جانب القادة العسكريين في البلد.
صحيح أن زعيم حزب الحرية والعدالة، الرئيس محمد مرسي، جعل من نفسه هدفاً سهلاً عبر إساءة استخدامه بتهور لسلطته الدستورية في تعيين أصدقائه وفي إصدار مراسيم أحادية الجانب. ففي الشهور القليلة الماضية وحسب، ملأ الجمعية الدستورية بأغلبية غير ممثلة، وضعت دستوراً جديداً مثيراً للجدل ومفتقراً إلى تضمين الحقوق المعترف بها دولياً للنساء وللعمال. وقد تم تمرير الدستور في نهاية المطاف في كانون الأول (ديسمبر)، لكن، بأغلبية ثلث الأصوات المؤهلة التي وصلت إلى مراكز الاقتراع. ثم، صدم مرسي الأمة عندما أصدر مرسوماً يمنع أي محكمة من الإشراف على قراراته، في قبضة مكشوفة على السطة في شكل محرج، وهو ما تم نقضه رسمياً فقط بعد مظاهرات شعبية عارمة.
لكن الرئيس لم يتوقف عند ذلك الحد. ففي أعقاب “المرسوم الذي تم تحديه بقوة، والذي يمنح الرئيس المصري سلطة غير محدودة” كما كتب أيرين رادفورد في عدد 11 كانون الأول (ديسمبر) من “كايرو ريفيو” فإن تعديلات مرسي لقانون النقابات العمالية للعام 1976 “تشير إلى كبت محتمل لحق تشكيل النقابات بحرية”. ورادفورد هو ضابط برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مركز التضامن في واشنطن العاصمة.
وفي الأثناء، نقل عن فاطمة رمضان، عضو المجلس التنفيذي للاتحاد المصري للنقابات العمالية تحذيرها في مقال رادفورد من أن “مرسي يعد العدة بوضوح لشن حملة ممنهجة على الحركة النقابية المصرية، وعلى حق الإضراب وعلى حق التنظيم وحق تعدد الاتحادات”. وفيما أشعل المزيد من نار المعارضة في أواخر كانون الأول (ديسمبر)، عزز الرئيس أغلبية حزبه “الحرية والعدالة” في مجلس الشورى المكون من 270 عضواً بتعيينه 90 عضواً جديداً.
وكل هذه في الحقيقة سياسات مقسمة ومقلقة بشكل يبعث على الأسى، والتي تثير الانتباه النقدي ضد حكومة حزب الحرية والعدالة، لكنه يظل من الجدير بالملاحظة مع ذلك هو أن المؤسسة العسكرية جزئها الضخم تحظى بمرور حر. فكيف أمكن لهذا أن يحدث؟
منذ الانقلاب العسكري التاريخي الذي قام فيه الضباط الأحرار في العام 1952، والذي أطاح بالملكية الدستورية وأنهى الاحتلال البريطاني، يفضل العسكريون المصريون بحرفية جيدة القيام بدورهم في المسرح الخلفي، تاركين القمع سيئ الصيت غالباً لوزارة الداخلية، تاركين للحكومة الاضطلاع بأمر الحكم المدني اسمياً.
وكما قد يظن المرء، فإن هذا ليس إيثاراً ولا تنويراً من جانب زمرة الجنرالات الذين دعموا نظام مبارك المتداعي لما يصل إلى 29 عاماً، بل على العكس. فبعيداً عن الأضواء، يبقى الجنرالات قادرين بشكل أفضل على إجراء أعمال تجارية مربحة جداً بشكل سري، والتي تفضي إلى تكديس ثروات شخصية وممتلكات خاصة.
وفي الأثناء، يتفق الدبلوماسيون المتعقلون والأكاديميون البارزون وعلماء الاقتصاد عموماً على أن العسكريين يسيطرون على نسبة تتراوح بين 15 إلى 35 % من الاقتصاد. ويقف الفارق الواسع في التقييمات في حد ذاته ليكون شاهداً على الطبيعة السرية لهذه الصفقات العسكرية التي أصبحت أسوأ تحت حكم حزب الحرية والعدالة.
لم يسبق للعسكريين أن تمتعوا بإشراف مدني أبداً، كما أن الدستور الجديد الذي صيغ في جزئه الضخم منه تحت تأثير ونفوذ الإخوان المسلمين قد زاد من “حصانته ضد المحاسبة” كما كتبت أستاذة جامعة القاهرة دينا الخواجة في عدد 27 كانون الأول (ديسمبر) 2012 من صحيفة “إيجبت إندبندنت”.
وفي الحقيقة، وحتى مع الدستور الجديد لما بعد مبارك، ما يزال سر حجم ضخامة الموازنة العسكرية في الحقيقة غامضاً، وكم تملك القوات المسلحة من الممتلكات وكيف تنفق بلايين الدولارات من المساعدات الأميركية. وتعد هذه البيانات سراً من أسرار الدولة. ولا تطعن لا الحكومة ولا الدستور الجديد في أي من هذه المزايا التي يتمتع بها المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية. وعلى العموم، يجب أن يكون واضحاً أنه ما لم يتم إلغاء عسكرة الاقتصاد، وما لم يتم كشف السرية التي تغلف نشاطات القوات المسلحة، فإنه لن يكون هناك تغيير اجتماعي أو اقتصادي كبير في مصر.
زواج مصلحة
على الرغم من ترددها التاريخي، فقد أجبرت القيادة العسكرية على الظهور في الواجهة يوم 11 شباط (فبراير) من العام 2011. وتكمن الحقيقة المخيفة في أن القوات المسلحة كانت المؤسسة المستدامة الوحيدة التي لم تمس بسوء بعد استقالة مبارك بالقوة. وفي الأيام التي تلت انهيار النظام مباشرة، جرى حل البرلمان وتعليق الدستور وإقالة الحكومة، ونزعت قانونية الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، وفكك البوليس السري رسمياً (بالاسم فقط). وبالإضافة إلى ذلك، تم اعتقال مبارك نفسه إلى جانب عدد من المقربين إليه، بمن فيهم ولداه (علاء وجمال). وفي الأثناء، رفع الحظر عن المنفيين، وأطلق سراح السجناء السياسيين. وكان ذلك انتصاراً كبيراً على نحو لا يصدق للموجة الضخمة من الاحتجاجات التي استمرت 18 يوماً وترافقت مع إضرابات عمالية.
وكانت هناك أيضاً سلسلة من التحركات الذكية جداً من جانب نظام تحت الحصار. فمن دون سؤال، وبدورهم النجومي الجديد، أثبت العسكريون أنهم أكثر تطوراً وصقلاً من سيدهم المخلوع، البعيد والمنفصل مبارك. وفي هذه الحالة، فهم العسكريون بوضوح أنه من الأفضل لهم تحصين أنفسهم من الانتقاد المجتمعي عبر العودة إلى المسرح الخلفي بالسرعة الممكنة.
وهكذا نجد أن القيادة العليا للقوات المسلحة المصرية اختارت بحذر ويقظة وتردد جماعة الإخوان المسلمين ليشاركوا في القيادة بشكل رئيسي، نظراً لمكانتهم الكبيرة ونفوذهم في أوساط ملايين من الناس.
وقد آتى هذا النفوذ أكله. وكانت جماعة الإخوان المسلمين منبوذة قانونياً معظم أوقات وجودها، ومنع قادتها من العمل وسجنوا وكثيراً ما عذبوا. ومع ذلك، فإن التنظيم الذي كان قد تأسس في العشرينيات من القرن الماضي استمر في عمله الخيري وتعليمه الديني، حتى تحت القمع، كاسباً بذلك احترام الملايين في المجتمعات الفقيرة التي خدموها.
ونتيجة لذلك، كانت جماعة الإخوان نسيجاً وحدها بين قوى المعارضة التي استطاعت أن تبني على نحو ناجح تنظيماً كبيراً خلال الأعوام الصعبة من الدكتاتورية. وحتى هذا اليوم، تظل جماعة الإخوان أفضل تنظيم مجتمعي في البلد، حيث يحصد ذراعها السياسي، حزب الحرية والعدالة، مزايا ارتقائها إلى المواقع الحكومية في السلطة والنفوذ.
ومن المهم جداً فهم أن جماعة الإخوان المسلمين هي تنظيم جماهيري أصيل، يستند إلى الملايين من الجماهير المصرية الفقيرة. وبسبب جذورها الجماهيرية، ونظراً لأنها تبنت أيضاً سياسات الخصخصة الاقتصادية لصندوق النقد الدولي، وخفضاً في الدعم المقدم للفقراء ومعارضة الإضرابات والنقابات المستقلة، فقد أصبحت حليفاً قوياً للسلطات الحاكمة في مصر.
لكن، وفي الوقت نفسه، فإن نفس تلك الجذور والتوليفة المجتمعية للإخوان المسلمين تجعل منها هشة أمام الضغوط الكبيرة من الأسفل. ولذلك، وبالرغم من اتفاقياتهم السياسية مع القطاعات الحاكمة في مصر، فإنهم لا يعتبرون حلفاء دائمين أو برجوازيين يعتد بهم. ولذلك، لم يكن الإخوان المسلمون الاختيار المفضل للقادة العسكريين كحليف في الأساس، لكنهم كانوا الاختيار الأفضل لهم -للوقت الراهن.
دور الإخوان المسلمين
لقد تآكلت سياسات القومية العربية والمعادية للإمبريالية التي تبناها الزعيم الكاريزمي جمال عبد الناصر بعد وفاته في العام 1970، بفعل سياسات خلفه، الرئيس أنور السادات، الذي أعلن: “أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة”. وقد غيرت سياساته المدعومة أميركياً من الشكل السياسي للسياسة المصرية بعيداً عن الهوية العربية الموحدة والقوية للأمة، ونقلتها إلى الحفرة التي لا قعر لها من الصراع الديني والانقسام. وهكذا، تم استخدام الذرائع الدينية لتجميع الدعم للسياسات الاقتصادية المحافظة التي بدأت ببيع ممتلكات الدولة المؤممة للمفضلين لدى النظام. وفي الوقت ذاته، هندست الحكومة هجمات منسقة على العمال والمعارضين الأكاديميين الذين لوحقوا وحوكموا كماركسيين ملحدين، وكمعارضين علمانيين للإسلام. وغالباً ما انضم أعضاء الإخوان المسلمين إلى هذه الهجمات الجسدية.
والآن، يستمر العسكريون في توظيف هذا النمط الشيطاني مع الإخوان المسلمين الذين يقدمون، تقليدياً وبحماس، على استثمار الوازع الديني دعماً لسياساتهم. وهكذا تُمنع وحدة الأغلبية المقموعة، بينما يتم تعتيم شفافية القضايا الطبقية المجتمعية والاقتصادية تحت رداء المرجعيات الدينية المبهمة. وهذا يفسر السبب في أن جماعة الإخوان المسلمين تشكل تهديداً فعلياً للنخبة التي تتوافر على أملاك في مصر، وفي أنهم يعتبرون الآن حليفاً مفيداً للقيادة العسكرية.
ولكي يكونوا حتى أكثر نفعاً، فإنهم لا يميلون مطلقاً إلى وجود النقابات المستقلة ولا إلى الحق في الإضراب أو إلى المساعدة في تخفيف تكاليف المعيشة. وتتبنى جماعة الإخوان المسلمين بالكامل السياسات الاقتصادية المتقشفة التي تعود للماضي، إلى درجة أن كمال أبو عيطة، رئيس الاتحاد المصري للنقابات العمالية المستقلة، لاحظ في عدد 15 تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2012 من صحيفة “إيجبت اندبندنت”: “اليوم لدينا المزيد من النقابيين الذين سرحوا وأخضعوا إلى محاكمات والبطالة قياساً عما كان عليه الحال في ظل نظام مبارك”. وبينما تمت مهاجمة الحركة الشعبية الشبابية وجرى إجهاض محاولات لبناء تنظيمات مستقلة في العامين الماضيين، لم تنهزم روح 25 يناير لحركة الحرية والعدالة.
هل هناك طلاق مرير في الأفق؟
وهكذا، سوف تستمر الإضرابات والاحتجاجات بالتأكيد. ولكن، عند نقطة ما، قد تصبح حكومة حزب الحرية والعدالة غير مستقرة بشكل كبير، وتشكل عبئاً كبيراً جداً على أصحاب الأملاك والجنرالات. وإذا ما حدث ذلك، فثمة العديد من الأمثلة في تاريخ العالم الحديث والتي تشير إلى محصلة سيئة.
من الممكن أن يتم استبدال حكومة حزب الحرية والعدالة بمنقذ مدعوم من العسكريين، والذي يتسم بمزيد من التخندق والروابط البرجوازية المعتد بها، والذي سيقدم الاستقرار للملايين الذين أرهقوا جراء الكفاح المستمر ضد حكومة تخفي تحالفها مع الثري والقوي، وتموه سياساتها المجتمعية والاقتصادية برداء الادعاءات الدينية المتناقضة.
والآن، تستهدف معظم نار المعارضة الإخوان المسلمين، بما يناسب العسكريين وحكام مصر الأثرياء تماماً.
(كاونتربنتش) – ترجمة: عبد الرحمن الحسيني- الغد الاردنية.
*نشرت هذه القراءة تحت عنوان: Understanding Egypt in Year Three