مصطفى بسيوني -السفير اللبنانية /لا شيء يبعث على الجدّية تجاه الدعوة التي انطلقت في مصر قبل ما يقرب من شهر تحت اسم «ثورة الغلابة»، سوى ما تقوم به الدولة نفسها.
فمن ناحية الدعوة، جاءت مجهولة المصدر، ولم تتوقّف أغلب القوى السياسية عند عدم تبنيها أو حتى الترحيب بها، بل عمدت الكثير من الأحزاب والقوى السياسية إلى إعلان نفي علاقتها بتلك الدعوة، بل حذّر بعضها من الانسياق وراءها. كما أنه لم تظهر بعد الدعوة دعاية حقيقية لها، تُبيّن أن خلفها أي جماعة نشطة أو فعّالة.
الدعوة المجهولة التي لم تجد استجابة شعبية ولا سياسية، ضخّمها تعامل الإعلام معها، فأغلب من علموا عن الدعوة، علموا عن طريق وسائل الإعلام التي تلقفتها، وبدأت حملة منهجية للتحذير منها أدت في واقع الأمر لتضخيمها. من ناحيتها، تعاملت الدولة بجدية مع الدعوة، فعلى الصعيد الأمني، مع اقتراب موعد الانطلاق المزعوم لـ«ثورة الغلابة» غداً في 11 تشرين الثاني، تزايدت الاستعدادات الأمنية بشكل يُوحي بجدية الحدث، فبدأت الحملات الأمنية تتزايد كذلك توقيف النشطاء وتكثيف الوجود الأمني في أماكن مختلفة، خاصّة في محيط ميدان التحرير.
ومن ناحية أخرى، اختارت الدولة الأسبوع السابق مُباشرة لـ «11 نوفمبر (تشرين الثاني)» لتطبيق الإجراءات الاقتصادية التي أدّت إلى المزيد من الغليان في الشارع، فقامت بتحرير سعر الصرف ورفع أسعار الوقود في يوم واحد قبل أسبوع من الموعد. وهو ما كان هدفاً للتندّر على وسائل التواصل الاجتماعي ممّن اعتبروا الدولة هي المُحرّض الأساسي على «ثورة الغلابة» في 11 تشرين الثاني.
تحدّث الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز لـ «السفير» عن تعامل الإعلام مع دعوة التظاهر قائلاً: «لا يُمكن الفصل بين المهني والسياسي في تعامل الإعلام مع دعوة 11 تشرين الثاني. ويُمكن القول إن الإعلام تعامل بثلاث طرق مع هذه الدعوة. أولى تلك الطرق كانت مهنية ووضعت الدعوة في سياقها الموضوعي وحدودها وعكست المدلول المُناسب لها. وهذه الطريقة كانت نادرة في وسائل الإعلام، ربما بعض الأخبار ومقالات الرأي. أما الطريقة الثانية فكانت مما يُمكن تسميته إعلام المُوالاة، الذي اعتبر الدعوة فرصة لممارسة بعض النزق المهني في إطار تغذية المخاوف لدى الجمهور. رغبة منهم في توطيد السلطة والانتصار للنظام، اعتبرت وسائل الإعلام تلك الدعوة فُرصة لتعميق المخاوف لدى الجمهور واستدعاء نظرية المؤامرة الخارجية».
ويضيف عبد العزيز: «الطريقة الثالثة كانت تعامل محدودي الكفاءة في وسائل الإعلام مع الدعوة سواء من المُعارضة أو المُوالاة، الذين ضخّموا، ولكن من دون قصد، من قيمة الدعوة بشكل انطباعي فقط ومن دون موضوعية أو حتى قصد واضح».
ويرى ياسر عبد العزيز أنه لا مخاوف حقيقية من تحوّل الدعوة المجهولة إلى حدث حقيقي بسبب تعامل الإعلام معها، ويقول: «الأكيد أن الشارع المصري اليوم لديه الكثير من عوامل الإحباط واهتزاز اليقين وعدم مقابلة التوقّعات. ولكن على الرغم من ذلك، لا يوجد طلب في الشارع على الاحتجاج وقلب الأوضاع. لذا فمن غير الوارد أنّ تعامل الإعلام مع دعوة 11 تشرين الثاني يُمكن أن يؤدي لحدث حقيقي. فلا استعداد في الشارع والجمهور منهك. والمقارنة الدائمة مع أوضاع سوريا والعراق تخلق حاجزاً بين الجمهور ودعوات الاحتجاج».
الحقيقة أن المُتابع للأحداث الكبرى في مصر، سيجد أن تحوّلات كبيرة وقعت على خلفية دعوات شبيهة على وسائل التواصل الاجتماعي. فانتفاضة المحلة في السادس من نيسان 2008، جاءت بعد دعوة الإضراب العام في «6 إبريل»، وهي الدعوة التي تشكّلت على خلفيتها حركة شباب «6 إبريل». كما أن «ثورة يناير» نفسها جاءت على خلفية دعوة للتظاهر عقب الثورة التونسية في يوم «25 يناير» 2011 الذي يُوافق عيد الشرطة في مصر. وهو ما تكرّر في دعوات أخرى للتظاهر والاحتجاج في أوقات مختلفة.
ولكن الدعوات من تلك النوعية، اعتمد تأثيرها على ما كان يجري بالفعل على أرض الواقع. فدعوة «6 إبريل» ارتبطت بإعلان عمّال المحلة الإضراب في اليوم نفسه قبل إطلاق الدعوة. وكان عمّال المحلة قد نفّذوا إضرابات واحتجاجات ناجحة قبل ذلك الإعلان. كما أن دعوة «25 يناير» جاءت لا فقط على خلفية الثورة التونسية وقتها، ولكن على خلفية حراك سياسي استمر في الشارع المصري لسنوات لرفض توريث الحكم والمُطالبة بالتغيير. فيما دعوات عديدة قد انطلقت من دون استناد للواقع ولم يكن لها أي أثر.
من الصعب توقّع أحداث كبيرة غداً الجمعة على خلفية دعوة «ثورة الغلابة»، ومع ذلك لا يُمكن استبعاد حدوث أي مفاجآت. ولكن في كل الأحوال، لا تبدو الدعوة التي ضخّمها الإعلام واستعدادات الدولة جادّة بما يكفي لتحريك الشارع. ولكن يبقى ما بعد «11 تشرين الثاني» هو الأهم. فما جرى في الأيام القليلة الماضية منذ تحرير سعر الصرف ورفع أسعار الوقود، يبدو تأثيره أكبر بكثير من دعوة «11 تشرين الثاني»، وإن كان مختلفاً نوعياً. فموجة ارتفاع الأسعار التي خلقتها القرارات، التي جاءت على أوضاع صعبة بالفعل تجاوزت فيها نسبة الفقر 27 في المئة من السكان، ودفعت أرقام التضخّم إلى معدلات غير مسبوقة في وقت قصير للغاية، خلقت صدمة في الشارع المصري وجعلت استقرار الأوضاع على هذا النحو أمراً غير مؤكد على المدى المتوسط. وأصبحت احتمالات الاحتجاج على أوضاع كتلك مرجّحة أكثر من أي وقت سابق.
سيمرّ يوم الغد على نحو ما. ربما يمر هادئاً أو تقع فيه أحداث هنا وهناك، وستذهب دعوته إلى حيث ذهبت دعوات كثيرة من قبل، ولكن ما بعد «11 تشرين الثاني» سيشهد الفترة التي تتفاعل فيها إجراءات الدولة القاسية وسط القطاعات الشعبية، والتي بدأ صبرها ينفد بالفعل.
مصر و«ثورة الغلابة»: المجهول وما بعده

Leave a comment