بعد أن تعطلت مفاوضات وقف إطلاق النار وصفقة التبادل بين حكومة الاحتلال وحركة حماس خلال الأسابيع الأخيرة، في أعقاب اغتيال شكر وهنية وانتهاك الاحتلال للسيادة اللبنانية والإيرانية، وخلال فترة وقوف الكيان المحتل بمجمله في حالة من الشلل، أو كما وصفها حسن نصر الله “على قدم ونصف”، في انتظار رد “حزب الله” وإيران، جاءت المبادرة الثلاثية للوسطاء الأميركيين والقطريين والمصريين لاستئناف المفاوضات، اليوم الخميس، الموافق الخامس عشر من آب، فما هي المعطيات التي اختلفت، والتي قد يكون من شأنها الخروج من حالة الاحتقان الحالي في المنطقة؟
وفي سياق متصل، وفي ظل تصاعد حدة التوتر والاحتقان في المنطقة بانتظار رد “حزب الله” وإيران، دعت فرنسا وألمانيا وبريطانيا، طهران بضبط النفس فيما يتعلق بالرد على إسرائيل، بينما دعت تلك الدول بالإضافة للولايات المتحدة وإيطاليا في بيان خماسي لوقف إطلاق النار في غزة. ويجري الحديث عن تدخل روسي لدى القيادة الإيرانية لخفض حدة الرد على إسرائيل، وعن مساعي واشنطن لإقناع تركيا بالتدخل أيضاً لدى القادة الإيرانيين لتحييد حدة ذلك الرد المنتظر. ويعني رد إيران هذه المرة، حتى ولو جاء في إطار الرد المنضبط، الدخول في دوامة الرد والرد المقابل، كما يحدث حالياً على الجبهة الجنوبية اللبنانية منذ عشرة أشهر، ولكن هذه المرة مع إيران أيضاً، ما سيدخل المنطقة في منعطف خطير، قد تفلت كوابحه في أي لحظة.
وفي ظل الإعلان عن قرب وصول بلينكن للمنطقة، اعتبر بعض المنخرطين في المفاوضات من الإسرائيليين بأن مفاوضات، اليوم، تعد لقاء الفرصة الأخيرة، لإعادة المحتجزين من غزة أحياء، بينما أكد يوآف غالانت أن إسرائيل على مفترق طرق، فإما التسوية أو التصعيد. ورغم تأكيد المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامئني على قدوم الرد، ورفض وزارة الخارجية الإيرانية أي تدخلات أو نصائح خارجية بخصوص ردها، جاءت الاستجابة الوحيدة من قبل إيران لخفض أو تأجيل ذلك الرد على تطاول إسرائيل بحدوث اختراق في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة. قد يكون ذلك المعطى من أهم المعطيات التي يمكن وضعها بعين الاعتبار، والذي يمكن أن يمهد لحدوث اختراق في تلك المفاوضات. رغم أن المعادلة التي تضعها إيران لخفض التوتر في المنطقة، وتتعلق بربط حقها المشروع بالرد ووقف حرب الإبادة على غزة ليست جديدة، فقد طرحها “حزب الله”، والحوثيون، والجماعات العراقية المسلحة، فوقف حرب الإبادة في غزة يعني تجميد التوتر في المنطقة بأسرها.
وقد يكون لتكليف حركة حماس يحيى السنوار بقيادتها، بعد تعيينه كرئيس جديد لمكتبها السياسي، في أعقاب اغتيال الرئيس السابق إسماعيل هنية في طهران في الحادي والثلاثين من شهر تموز الماضي، معطى مهم جديد في هذه المفاوضات. فقد أجابت الحركة بتعيينه عن موقفها، اليوم، أي بعد عشرة أشهر من القتال والتصدي للاحتلال في غزة، خصوصاً أن الإعلان عن تعيينه جاء مصحوباً بوابل من الصواريخ المنطلقة من غزة تجاه أهداف العدو، بأنها تقف صلبة على الأرض ولن تستسلم ومستعدة لمواصلة القتال في رسالة تحدّ واضحة، وتتشبث بمواقفها التفاوضية مع قوة الاحتلال. وقد ترجم ذلك بالفعل عندما أعلنت الحركة للوسطاء، رغم إثارة الشكوك حول عدم مشاركتها في مفاوضات، اليوم، عدم رفضها المشاركة في المفاوضات، دون تحديد شكل تلك المشاركة. كما وضع السنوار شرطه بضرورة وقف الأعمال العسكرية خلال المفاوضات. ودعا بيان الحركة الوسطاء لوضع خطة للمفاوضات تقوم على تنفيذ مقترحات بايدن التي وضعها نهاية شهر أيار الماضي، والتي ترجمت لقرار صدر من مجلس الأمن مطلع الشهر التالي. ولا يخرج إعلان أبو عبيدة الناطق العسكري باسم الحركة حول مقتل محتجزين في غزة على يد حراسهم، كرد عاطفي على الجرائم المرتكبة بحق المدنيين في غزة والأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال عن ذلك السياق المستحدث. ورغم ذلك لا تخفي الحركة رغبتها بوقف الحرب على غزة منذ اليوم، وكانت السبب في تحريك دفة المفاوضات أكثر من مرة، ولا تزال تعبر مواقفها وتصريحاتها عن ذلك دون مواربة، لكن ليس بأي ثمن.
ويبقى موقف إسرائيل والولايات المتحدة من تلك المفاوضات من أهم المعطيات المؤشرة على مدى إمكانية حدوث اختراق خلالها هذه المرة. إلا أن التباينات في المواقف سواء تلك التي تتعلق بمواقف الولايات المتحدة نفسها، وبينها وبين إسرائيل تشير إلى عدم حدوث تبدل يسمح بالاختراق. اعتبرت الولايات المتحدة أن اتفاقا لوقف إطلاق النار قد يمنع الحرب الإقليمية الموسعة، لذلك كانت وراء التحركات الأخيرة التي نشهدها لإحياء المفاوضات في لحظات حرجة وحاسمة في ذات الوقت. ولا تخفي الولايات المتحدة عدم رغبتها في حدوث تلك الحرب، التي تجبر على الانجرار إليها، بحكم علاقتها الخاصة جداً بإسرائيل. إلا أن الولايات المتحدة والتي تسعى لإحياء المفاوضات سارعت على الناحية الأخرى لإحضار ونصب وتجهيز ترسانتها المسلحة الدفاعية والهجومية في المنطقة والتلويح بالقوة العسكرية لردع إيران عن توجيه ضربة لإسرائيل. جاء ذلك بالإضافة إلى مساعيها لإقناع جهات إقليمية للتدخل ودياً لدى إيران لثنيها عن توجيه ضربة لإسرائيل. يبدو التباين واضحاً في سلوك الولايات المتحدة التي تسعى لتجنب حدوث حرب إقليمية، ولجأت لإحياء المفاوضات، التي اعتبرت إيران أن نتائجها الإيجابية ووقف الحرب على غزة قد تعطل حدوث مثل تلك الحرب الإقليمية، وفي نفس الوقت بدل أن تضغط على إسرائيل لتحقيق اختراق في تلك المفاوضات، والتي يشهد الوسطاء المصريون والقطريون والمفاوضون الإسرائيليون أنفسهم على أن نتنياهو المسؤول عن تعطيلها، تلوح بالقوة العسكرية لردع إيران. ويبدو أنه من دون فرض ضغط أميركي حقيقي على نتنياهو وحكومته لإنجاز صفقة لوقف إطلاق النار في غزة لن يحدث الاختراق المطلوب لإخراج المنطقة من حالة التوتر المتصاعد، وهو أمر مشكوك به في ظل أداء الإدارة الأميركية الحالي.
ويظهر التباين جلياً بين موقف الولايات المتحدة وإسرائيل تجاه المفاوضات بداية من خلال التصريحات، إذ تصفها الأولى بأنها تأتي لإنجاز صفقة لوقف إطلاق النار في غزة، بينما تعتبر حكومة نتنياهو بأنها تنشد صفقة تبادل لإخراج المحتجزين من غزة. تشير تسريبات صحافية إلى أن نتنياهو أضاف شروطا جديدة لمفاوضات، اليوم، كعادته في المفاوضات السابقة، وبصرف النظر عن تلك الشروط، والتي كسابقاتها تسعى لضمان بقاء الاحتلال في غزة، وعدم انتهاء الحرب، وضمان إخراج أكبر عدد من الأحياء المحتجزين في غزة، وعدم منح حركة حماس إنجازا حقيقيا مستداما، لا يبدو هناك أي تغير في توجهات نتنياهو من المفاوضات واستمرار الحرب في غزة. ويبدو أنه لا يزال يرى في استمرار التوتر في المنطقة مخرجاً له لضمان استمرار بقائه في الحكم دون محاسبة، في ظل إحكام سيطرته على مفاتيح القرار في البلاد، وكذلك فرصة إستراتيجية لتحقيق أهداف عسكرية طال انتظارها. حيث يقول آميت ياغور في مقال له في صحيفة “معاريف” العبرية، إن شن حرب على إيران و”حزب الله” فرصة استراتيجية، معتبراً أن صفقة تبادل مع “حماس” وعدم الذهاب لحرب مع إيران و”حزب الله” يعني بقاء “حماس” في غزة واستمرار خطر “حزب الله” وإيران قائما، واعتبر أن الحرب الشاملة فرصة لإعادة تشكيل وترتيب وضع المنطقة لسنوات. وقد يبدو الأمر فعلاً فرصة إستراتيجية حقيقية لنتنياهو خصوصاً إن توفرت فعلاً الذراع التي ستضرب في هذه الحرب، خصوصاً أن إسرائيل تعجز وحدها عن خوضها، فهل ستخضع الولايات المتحدة لمغامرة غير محسوبة تنسجها حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة والمتهورة، والتي ستدفع الولايات المتحدة ثمن نتائجها على حساب مصالحها.