في وقت انشغلت الدول العربية بمتابعة اجتماعات جنيف، كما انشغلت الولايات المتحدة برصد التطورات التي أحدثتها الأزمة الاوكرانية على مستوى العلاقات مع روسيا.
في هذا الوقت العصيب إقليمياً ودولياً، استغلت ايران الظروف المتأزمة لتُقدِم على خطوة اقتحامية نقلت من خلالها نفوذها السياسي الى اليمن والصومال ومضيق باب المندب. ورأى المراقبون في هذه الخطة استكمالاً لعملية نشر حضورها غرباً على طول الشاطئ المتوسطي الممتد من لبنان وسورية الى تركيا.
والثابت أن الخبراء العسكريين الذين أرسلتهم طهران للإشراف على عمليات النزاع في اليمن هم الذين نصحوا بضرورة تأمين السلاح الثقيل لحلفائهم الحوثيين. وبفضل ذلك السلاح الهجومي، اقتحم المقاتلون مناطق حوث وخيوان والخمري، الأمر الذي وضعهم على أعتاب معاقل أولاد الشيخ الراحل عبدالله بن حسين الأحمر. ويتهم أنصار الشيخ الأحمر الرئيس السابق علي عبدالله صالح بالانحياز الى موقف الحوثيين على أمل منحه دوراً جديداً يعيد اليه الاعتبار.
المفاجأة الثانية التي صدرت عن مؤتمر الحوار الوطني، أعلنها الرئيس عبدربه منصور هادي في مؤتمر صحافي يوم الاثنين الماضي. وقال إن اللجنة حسمت مستقبل البلاد عبر تقسيمها الى ستة أقاليم: أربعة في الشمال وإثنان في الجنوب، على أن تكون صنعاء عاصمة الدولة الاتحادية.
وذكرت وكالة الأنباء الرسمية (سبأ) أن قرار اللجنة استبعد خيار التقسيم الى إقليمين، شمالي وجنوبي، على ما طالب الحزب الاشتراكي. ولكنه تعمَّد إرضاء الحوثيين عندما خصَّهم بمنفذ بحري للإقليم الذي يضم محافظة صعدة حيث معقلهم الرئيس.
وعلى رغم صدور قرار مميز يخدم مصالح الشيعة، فإن جماعة الحوثيين اعترضت على التوزيع، مطالبة بإنشاء دولة شيعية مستقلة على حدود السعودية التي تضم مقدرات نفطية وتتمتع بمنفذ على البحر الأحمر. ولكن هذا الاعتراض لم يلغِ أهمية ايران التي باتت تشكل اللاعب الأبرز على الساحة اليمنية.
ومن خلال الامتيازات التي حصل عليها الحوثيون، راحت ايران تتصرف كدولة غير معنية بقواعد اللعبة التي رسمتها في جنيف مع الولايات المتحدة… أي دولة ذات خطة اقليمية واسعة تعمل على تنفيذها بإصرار واستهداف عميقين.
ومع أن التحول اليمني لم ينضج قبل مروره باختبارات طويلة ومضنية، إلا أن مجرد الإعلان عنه من جانب رئيس الجمهورية سيفسح في المجال لظهور مفاجآت مماثلة قد تعلن عنها قيادات الثورة الليبية. والسبب أن الوحدة التي فرضها معمر القذافي بالقوة بين طرابلس وبنغازي معرّضة للتمزق بإرادة الميليشيات المسلحة التي تمنع إحياء المؤسسات الرسمية.
وذكرت الصحف الالمانية، أثناء عقد مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ، أن أعداداً كبيرة من الارهابيين والاسلاميين المتشددين قد لجأوا الى مدينة «درنة»، وجعلوا منها معقلاً للقادمين من أفغانستان وباكستان والصومال ومالي. وبعد أن يتم تدريبهم، ينتقلون للقتال في سورية والعراق وغيرهما من المناطق الساخنة.
وادعت تلك الصحف أن زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري وصل الى «درنة» من طريق البحر، وذلك بهدف جعلها عاصمة دائمة لنشاطاته. وهو مقتنع بأن الذي يحكم ليبيا يستطيع أن يتحكم بسياسة مصر، ويؤمّن السلاح بكثرة لجماعة «الإخوان المسلمين».
وعلى ضوء هذه المستجدات، تقدِّر التوقعات أن دورة «الربيع العربي» لن تستكمل زحفها قبل مرور عشر سنوات. وهي المدة التي استغرقتها الثورة الفرنسية للتخلص من مظالم روبسبيار ودانتون ومقصلة الدكتور غيوتين. والمؤسف أن العالم العربي، الذي حوّلته الفوضى المستشرية الى عوالم متباعدة ومتنافرة، لن يسعفه المناخ الموبوء على إنتاج نابليون عربي.
وفي حال تأخر ظهور المنقذ، فإن توقعات الخبراء تستبعد ترسيم حدود جديدة للدول التي ستصاب بعدوى التغيير والتشطير مثل لبنان. علماً أن لبنان سيكون آخر دول المنطقة تأثراً بما يجري داخل حدوده وخلف حدوده. والسبب أن توق أبنائه الى الحرية والتغيير دفعهم الى منع الرؤساء بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب من التجديد أو التمديد. ولولا الضغوط السياسية التي مارسها الرئيس بشار الأسد من أجل تمديد ولاية الرئيس اميل لحود، لكان لبنان سجّل واقعة استثنائيه بين دول الجامعة العربية!
مخاوف اللبنانيين من المستقبل المجهول ازدادت وتعمقت بعدما فشلت كل المحاولات الداعية الى تشكيل حكومة توافقية. وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا الوضع السلبي على انتخابات رئاسة الجمهورية، وعلى أجواء الوفاق المطلوبة في مرحلة بالغة الأهمية.
ومن الأمثلة الدامغة التي تعزز هذه المخاوف، ازدياد خسائر القطاع السياحي التي تجاوزت الأربعة بلايين دولار مطلع هذه السنة.
ويرى خبراء الاقتصاد أن أزمة النازحين السوريين تركت بصماتها على مختلف السياقات الاجتماعية والمعيشية. علماً أن مساهمة العمال السوريين سابقاً كانت مقتصرة على قطاعي البناء والزراعة. ولكنها اقتحمت هذه المرة كل القطاعات بما فيها المهن الحرة التي تفرض المنافسة بصورة غير مشروعة، لأن النازح السوري لا يدفع ضريبة ولا يسدد اشتراكات الضمان الاجتماعي. وبسبب شراسة الحرب الأهلية السورية، ازدادت تلقائياً حركة النزوح الى لبنان بحيث وصل العدد الى مليون وثلاثمئة ألف نسمة.
وعلى هامش المتاعب الاقتصادية، ظهرت حرب المفخخات في بيروت كعامل شلل واسع فرض على المواطنين ملازمة منازلهم. وقد أدى هذا الضغط المعنوي الى نشر حالات الكساد والانكماش بحيث تضررت المخازن الكبرى والصغرى من نتائج الحصار المفروض.
وهكذا، بصدد ما شهدته بيروت من هستيريا جماعية، فإن الفراغ السياسي المتوقع في مهمة الحكومة الغائبة سيلقي على كاهل «حزب الله» أعباء إضافية يصعب تجاهلها. كما يدفع جماعة 14 آذار الى استنفار الهواجس الميليشيوية النائمة بغرض رسم خطوط حمر تصلح لاحتواء واقعين جديدين: الأول، طغيان أكثرية سنّية إضافية يغذيها استيطان 450 ألف فلسطيني، وأكثر من مئة ألف نازح سوري. الثاني، حدوث تهجير داخلي تفرضه حالات الاستقطاب التي تنشأ عادة عن نزاعات محلية، تماماً مثلما طردت حرب الجبل عام 1983 نحواً من مئة ألف مهجَّر الى بيروت.
هذا الأسبوع، اتجهت الأنظار الى جنيف على أمل أن ينجح الموفد الأممي الأخضر الابراهيمي في إحداث تقارب بين موقفي النظام السوري والمعارضة. ووعد الابراهيمي برفع تقرير الى أمين عام الأمم المتحدة، علماً أن التقدم على هذا المسار لم يكن على مستوى التوقعات. والسبب أن الناطق الإعلامي باسم وفد المعارضة، لؤي صافي، أصرَّ على مناقشة موضوع الارهاب بعد تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات تحل محل الرئيس بشار الأسد. في حين رأى فيصل المقداد، نائب وزير خارجية سورية، أن الارهاب يجب أن يتقدم كل المسائل الأخرى كونه يمثل محور المحادثات بين «الائتلاف» والنظام.
في ضوء هذه الإخفاقات، قال الوزير الاميركي جون كيري إن مؤتمر جنيف لن ينجح في ردم الهوة بين الفريقين المتحاربين. وعليه، فهو يعتقد أن الرئيس السوري بشار الأسد ليس مستعداً للقبول بفترة انتقالية يتخلى خلالها عن الحكم. وهو في هذا السياق يؤمن بأن المعارضة ستخسر على الصعيد الداخلي بسبب الخلافات القائمة بين فصائلها.
وترى الادارة الاميركية، استناداً الى مصادر تركية، أن «الجيش الحر» تراجع خلال الشهر الماضي عن تحقيق أي نصر تمكن المساومة عليه. وقد حلت في الصدارة القوى الاسلامية المتطرفة مثل «داعش» (الدولة الاسلامية في العراق وبلاد الشام)… أو «الجبهة الاسلامية» التي تواصل تقدمها في حلب وحمص.
والثابت عسكرياً أن البراميل المتفجرة كانت العامل المؤثر في سير المعارك، خصوصاً بعدما زودتها روسيا بكميات ضخمة تزيد عن حاجة النظام. وجاء في تقرير أعدّه المكتب الإعلامي للثورة السورية أن هذه البراميل حصدت خلال سنوات الثورة الكثير من الشهداء، وخلفت دماراً هائلاً في كل مكان أصابته. وتُعتَبَر هذه القنابل جزءاً من الترسانة الروسية التي ساهمت في ربح معركة الشيشان. وتضم كل قنبلة (برميل) كمية كبيرة من مادة (تي ان تي) بحيث تنفجر بمجرد اصطدامها بالأرض. والبراميل الأكثر استخداماً في سورية هي من نوع «فاب» 250 كيلوغراماً و «فاب» 500 كيلوغرام. وهي تسبب عند انفجارها موجة ضغط شديدة مترافقة بلهب وحرارة مرتفعة مع إطلاق كميات من الشظايا القاتلة. وهي مناسبة لضرب التجمعات السكنية والأرتال العسكرية وغير مفيدة في استهداف أبنية صغيرة أو أهداف متحركة. ويرى الخبراء العسكريون الروس أن هذا السلاح يعوِّض عن خسارة السلاح الكيماوي، وأن تأثيره المعنوي أبعد وقعاً.
ومن أجل تغيير هذا السلاح، اقترحت الدول الغربية التعاون بين الجيش النظامي و «الجيش الحر». ولكن مثل هذا التعاون يستدعي إسقاط الأسد، أو إخضاع جيش الثوار لقيادة عسكرية يقف الأسد على رأسها. وفي الحالين، استبعدت روسيا اقتناع الجهتين بجدوى هذه الفكرة العقيمة.
بقي أن نذكر أن مؤتمر جنيف تعرض لبعض التعديل لدى الائتلاف المعارض. ذلك أن الوفد السياسي المفاوض استقدم سبعة خبراء عسكريين أبرزهم يمثلون «جبهة ثوار سورية» و «قيادة غرف العمليات المشتركة في حوران» الممثلة لـ 18 مجموعة مقاتلة على الأرض.
إضافة الى هذا، فقد نصح جهاز الاستخبارات السويسري وفد المعارضة بأن يبدل مكان سكنه من فندق «رويال» الى فندق «انتركونتننتال»، والسبب أن رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، يملك حصة كبيرة في الفندق الأول، الأمر الذي سهَّل للإدارة التنصت على الأحاديث السرية لأفراد وفد المعارضة. وكان هذا الوفد قد أقام في فندق «رويال» خلال جولة التفاوض الأولى.
وفي أول خطاب له بعد تسلّمه مهام وزارة الأمن الداخلي الاميركي، أعلن جيه جونسون أن سورية أصبحت قضية أمنية بالغة الخطورة للولايات المتحدة ولحلفائها الاوروبيين. وقال الوزير في «مركز ويلسون»، المتخصص بمعالجة الشؤون السياسية: «إن النزاع المستمر منذ ثلاث سنوات في سورية، والذي أودى بحياة 136 ألف شخص… هذا النزاع يتحول تدريجاً الى مسألة أمن داخلي لنا وللأوروبيين».
ونصح في كلمته الدول الحليفة بأن تمنع المتطوعين من السفر الى سورية للاشتراك في النزاع، لأن بلدانهم الأصلية تعاني من سلوكهم المتطرف بعد العودة.
وخلص في كلمته الى القول إن التدخل العسكري في سورية لن يكون خيار البيت الأبيض. وذكَّر بأن الحرب الأهلية في سورية مستمرة منذ 35 شهراً… وأن الرئيس اوباما سينهي ولايته الرئاسية الثانية بعد 35 شهراً.
وبسبب خلافه العميق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن المراقبين لا يتوقعون انفراجاً دولياً في القريب العاجل، إلا إذا تعثر انسحاب القوات الاميركية من أفغانستان… أو إذا نجحت «القاعدة» في الاستيلاء على الحكم في ليبيا…
الحياة اللندنية