قديما، كانت وظيفة العَلَم تحديد هويّة السفن، وقد استخدمه المصريون القدماء للتعريف بالمراكب التي كانت تبحر في النيل قبل آلاف السنين.
وفي ربوع المعمورة كانت لكل جماعة أو قبيلة عَلمها الخاص، ترفعه وقت الحروب والغزوات لشحذ الهمم ورفع المعنويات.. فكان يتقدم زحف الجيوش فارسٌ يحمل العَلم، ويحرص كل الجنود من حوله على حمايته، فإذا سقط تنهار معنويات المقاتلين، ومن بعدها ينهار الجيش بأكمله، وقد يعني ذلك هزيمة تلك الدولة، وطالما بقي العلم مرفوعا، تظل معنويات الجند عالية، ما يمنحهم شعورا بالانتصار. وحتى اليوم لا يزال العَلم يحمل تلك الفلسفة.
ثم صار لكل قبيلة، ولكل شعب، ولكل إمبراطورية علمها الخاص، ترفعه وقت الحرب ووقت السلم.. وبعد نشوء الدولة (بمفهومها الحديث) صار لكل دولة علمها، ويعد علم الدنمارك، أقدم الأعلام المستخدمة حاليا، بنفس التصميم العائد إلى القرن الـ13، تليه النمسا.
اليوم يعتبر العلم من أهم رموز الدولة، ولم يعد مقتصرا على الجيوش، بل صار للمجتمعات، يشير إلى الدولة مهما تغيرت الحكومات والنظم السياسية.. واحترام العَلم أول دروس المواطَنة. فهو يعبّر عن الهوية والانتماء، وهو الأيقونة الثابتة والخيمة التي يستظل بظلها الجميع، حيث يشعر كل مواطن أن بلده بخير، كلما رأى علمها يخفق عالياً.
يسرد العَلَم مرويات التاريخ، ويصف تحولات الجغرافيا، ولكن بسمات حية متحركة تسافر عبر الزمان والمكان، وتجعل من هوية الوطن مساحة خصبة للتعايش الكريم. وهذا السموّ الذي يمتلكه العَلم شكلاً ومضموناً، إنما ينبع من قيمته الوطنية بشقيها التجريدي والفعلي، فهو ليس مجرّد قطعة قماش ترفرف مع حركة الريح، بقدر ما هو تفسير ذكي وموجّه نحو الارتباط الجسدي والروحي بالمكان والشعب، يعزز الانتماء للأرض، ويشعل جذوة الحنين، ويشكل منبعا للذاكرة، وحافزا للأحلام الجمعية.
لا ينحصر معنى العَلَم في شكله وألوانه، ولا في تمثيله لجماعة بعينها، بل يمتّد معناه وتتوزع دلالاته على آفاق إنسانية رحبة، لا تدل بالضرورة على انفصال عن المحيط، أو تقوقع ضمن حيز جغرافي، وإلا أصبح دلالة على الشوفينية وعلى الوطنية الانعزالية، كما هو حال علم الفاشية والنازية.. فالعَلم، وإن كان يرمز للوطن، ولهوية سياسية جامعة في منطقة محددة لها قوانينها وعاداتها الاجتماعية، وقيمها الثقافية وطموحها الوطني، إلا أن هذا لا يتعارض مع الانفتاح الحضاري والإنساني مع سائر الشعوب، ومع قيم التعايش والتسامح.. فمثلا نرى مائتي علم في المحافل الدولية والمسابقات الرياضية وغيرها من الأنشطة ذات الصبغة العالمية، فنشعر بروح التنافس الحر بمنزع تكاملي يؤكّد على الثراء والتنوع والتميّز، ويشي بالتواصل والتعاون بدلا من الحروب.
على سبيل المثال، بعد هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية، اختارت الدولة الألمانية علما جديدا، ولكنها سنت قانونا يحظر فيه رفعه، في محاولة منها لتنشئة جيل جديد يخلو من النزعة الشوفينية، وصار رفع العلم الألماني مقتصراً على السفارات والمباني الحكومية وفي البروتوكولات الرسمية، ولا يسمح للمواطنين برفعه، وبقي القانون ساريا حتى مونديال 2010 الذي استضافته ألمانيا، حينها سمحت الحكومة للمواطنين برفعه.
ولكل عَلَم ألوانه التي تكشف عن قاموسه السري ولغته الرمزية، متتبّعاً المسار الكرونولوجي للزمن، ومختصراً للكلمات والمعاني، ضمن فضاء شمولي للوطن وللشعب، فيه صدى وانعكاس للتاريخ وللمستقبل، وتمثيل للتضحيات والمنجزات والتحدّيات، وللأفراح، وحتى للانكسارات والخيبات.
ولكل علم حكايته الخاصة، حيث تنصهر السياسة مع الثقافة والتاريخ.
وقد اختارت بعض الدول تزيين أعلامها بشعارات ورموز إلى جانب الألوان، فحضرت الشمس للدلالة على الحرية (الأرجنتين مثلا). وظهر الهلال، للتعبير عن الهوية الإسلامية لبعض الدول (تونس، تركيا، سنغافورة، موريتانيا، أذربيجان، ماليزيا)، وحضر الصليب كرمز للمسيحية. يخبرنا الصديق الشاعر عامر بدران أن الدول الأوروبية ذات الأغلبية البروتستانتية، ضم علمها الصليب مع لون أو لونين آخرين (بريطانيا، السويد، فنلندا، النرويج، سويسرا، الدنمارك)، بينما الدول التي انتصرت فيها النزعة القومية أو حلمت بذلك، فقد حاولت تقليد علم الثورة الفرنسية المكون من ثلاثة ألوان دون صليب (ألمانيا، رومانيا، إيطاليا، بلجيكا، كرواتيا، صربيا، بلغاريا، هنغاريا، تشيكيا، إيرلندا، هولندا).
ومن الملاحظات المثيرة لدلالات الألوان، اختفاء اللون البنفسجي من أعلام كافة دول العالم، قديماً وحديثاً، والسبب أن الصبغة البنفسحية كانت باهظة الثمن للغاية، وحدها جزيرة دومنيكان في البحر الكاريبي، ضم علمها اللون البنفسجي. كما كان اللون الأبيض علامة للاستسلام في المعارك، ثم صار رمزا للسلام. والأزرق السماوي رمز الحياد، وهو لون علم الأمم المتحدة.
في تاريخنا العتيد، اتخذ العرب في الجاهلية اللون الأسود للمطالبة بالثأر (الذي كان حاضرا على الدوام)، ثم اتخذ الأمويون اللون الأبيض وهي راية معركة بدر التي حملها الإمام علي، وسميت راية العقاب، والعباسيون الأسود حدادا على استشهاد الحسين، والفاطميون الأخضر، أما الخوارج فاختاروا الأحمر تماشيا مع نهجهم العنيف..
أما أعلام الدول العربية حاليا فهي لا تخرج عن هذه الألوان الأربعة، والتي ضمها علم الثورة العربية الكبرى، ثم اتخذه البعثيون علما للوحدة العربية، كما صار علما لفلسطين، وكذلك صار علما للأردن (مع إضافة النجمة السباعية)، وهي عموما مستلهمة من أبيات للشاعر صفي الدين الحلي، الذي عاش في الفترة التي تلت مباشرة سقوط بغداد على يد التتار، أي في ذروة الهزيمة. وجاء فيها: بيضٌ صنائعنا، سود وقائعنا، خُضر مرابعنا، حُمر مواضينا..
ظل الفلسطينيون موحّدين تحت راية فلسطين بألوانها الأربعة، منذ النكبة مرورا بسنوات الثورة والعمل الفدائي والانتفاضات الشعبية، لم يعرفوا راية غيرها، حتى جاءت بعض أحزاب الإسلام السياسي، واستفحل التعصب الأيديولوجي، فتشتت المشهد، وتفتتت الوحدة، حصل ذلك في زمن تدهور مكانة منظمة التحرير، وتراجع الفعل الكفاحي، والمتزامن مع انهيار الحواضر المدنية العربية، وتمدد الهوامش الصحراوية الوهابية، وزمن العصبيات الحزبية..
وحتى تعود فلسطين إلى قلب الحدث، وتتوهج روح شعبها النضالية، وحتى نرسّخ وحدتنا الوطنية، علينا أن نثبت أن فلسطين وقضيتها أهم من الحزب، وأنّ الوطنية أعلى وأولى من الانتماء الطائفي، والأيديولوجي، والحزبي.. وهذا يتطلب رفع علم فلسطين وحسب.
في القدس، وفي كل فلسطين، جسّد العلم وحدة الشعب، ووحدة الهدف، وصار رمزا لتحدي الاحتلال، وفرض السيادة الوطنية، حتى لو كانت معنوية، فهذا بالضبط ما يغيظهم.