شهد القانون الدولي، بعد الحرب العالمية الثانية، تطوراً نوعياً يتمثّل باهتمام متزايد بالإنسان وحقوقه وبالعدالة الدولية ومقتضياتها. وكانت حقوق الإنسان شهدت أيضاً تقدماً على كل المستويات، سواء في التركيز على حقوق الإنسان أو في استنباط الضوابط والآليات الدولية المناسبة لمحاسبة ومعاقبة كل من يرتكب «جريمة دولية». والجريمة الدولية هي الجريمة التي تمس المجتمع الدولي كله وليس الدولة الواحدة فقط. تصنّف، قانوناً، إلى عدت فئات هي: جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة، والأعمال العدوانية كما حدّدها اتفاق روما الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية في مطلع هذا القرن. ثم أضيفت جريمة الإرهاب إلى الجرائم الدولية المذكورة أعلاه.
وفي عودة إلى القانون الدولي وأطره العامة نرى أن هذه الجرائم الدولية تشكّل، في توصيفها القانوني، العمود الفقري لما بات يعرف بـ«القانون الجنائي الدولي». والواقع أن هذا القانون الذي طبق للمرة الأولى أمام محكمة نورمبرغ وطوكيو في 1945 و1946، اعتمد مساراً طويلاً انتهى بتشكيل المحكمة الدولية استناداً إلى الاتفاقية الدولية في روما 1998.
ولكن هذا القانون الجنائي الدولي وآليته القضائية الدولية، والذي استقر في تنظيم ومعاقبة الأفراد المرتكبين (او الآخرين أو المتدخلين أو الممولين) للجرائم الدولية، لا يزال موضع تساؤل بالنسبة إلى محاسبة الدول التي ترتكب مثل هذه الجرائم ومعاقبتها.
كانت الفلسفة التي اعتمدتها محكمة نورمبرغ في محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية: «إن الجرائم المرتكبة ضد القانون الدولي ترتكب من قبل أشخاص وليس وحدات تجريدية. وبمعاقبة هؤلاء الأشخاص الذين يرتكبون هذه الجرائم يمكن بنود القانون الدولي أن تطبق». وتبعت المحاكم الدولية اللاحقة هذه الفلسفة.
الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل
تتوزع هذه الجرائم على مجموعات متعددة، ذلك لأنها ارتكبت خلال هذه الفترة الطويلة أنواع الجرائم كافة بحق الشعب الفلسطيني. ومن هذه الجرائم ما يمكن وصفه بجرائم الحرب أو جرائم ضد الإنسانية، وجرائم العدوان، وذلك وفقاً لأحكام القانون الدولي المتمثّل مؤخراً في اتفاقية روما من خلال توصيفها التفصيلي لهذه الجرائم.
ومن الجرائم ما يمكن أن يندرج في جرائم الإبادة بدءاً من مجزرة دير ياسين إلى مجزرة جنين. ومنها ما يمكن أن يتعلّق بإرهاب الأفراد وإرهاب الدولة معاً. ومنها ما يتناول انتهاك الاتفاقيات الدولية (كاتفاقية جنيف الرابعة خصوصاً) والقرارات الدولية وهي بالعشرات.
وتجدر الإشارة هنا إلى الملاحظات التالية:
1 ـ إن هذه الجرائم الدولية المذكورة أعلاه لا تستفيد من مرور الزمن، أي إنها لا تسقط بعد مرور فترة معينة، بخلاف القوانين المحلية. فقد نصت الاتفاقية الدولية للعام 1968 المتعلقة بـ«عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية» في مادتها الأولى على أنه لا يسري أي تقادم على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة والجرائم الخطيرة الأخرى، بصرف النظر عن وقت ارتكابها. وبالتالي، فإن إسرائيل تبقى مسؤولة عن هذه الجرائم كما إن الإسرائيليين يبقون عرضة للعقاب المناسب إذا ثبتت إدانتهم بها وبصرف النظر عن تاريخ حصولها.
إن وسائل الإثبات الداعمة لهذه المسؤولية متوفرة في عدد من القرارات الدولية السياسية أو القانونية، ويمكن توثيقها وتوزيعها وفقاً للتوصيف القانوني لكل من هذه الجرائم. كما يمكن أيضاً تحديد أسماء بعض الإسرائيليين، شاغلي الوظائف، الذين ارتكبوا أو أمروا بارتكاب هذه الجرائم.
3 ـ ولعل الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت جريئة في أحد قراراتها الذي اتخذته في العام 1982، عندما اعتبرت أن إسرائيل دولة غير محبة للسلام، وبالتالي يجب عزلها من عضوية الأمم المتحدة ويجب على الدول اتخاذ الإجراءات اللازمة بحقها.
4 ـ إن آلية محاكمة الأفراد الإسرائيليين قد تستتبع إثارة مسؤولية الدولة ذاتها إذا ثبت أن ثمة علاقة وظيفية قائمة بين الحكومة الإسرائيلية وبين مرتكب هذه الجريمة. وبذلك يمكن أن تتقرر مسؤولية الدولة كما تتقرر معاقبة فاعل الجرم. والمعروف هنا، في ضوء ما تقدّم، أن موجب التعويض عن الأضرار الحاصلة يصبح ضرورياً، كما ان إقرار العدالة الجنائية يصبح ممكناً أيضاً.
5 ـ إن الجرائم الدولية المتقدم ذكرها تسيء ليس إلى شعب محدد وحسب وإنما إلى المجتمع الدولي كله. أي إنه يحق لأية دولة أن تقاضي، أي أن تساهم في مقاضاة، مرتكبي الفعل أمام الهيئات المناسبة. وعلى هذا الأساس يعتبر تأثير هذه الجرائم الدولية على المجتمع الدولي كله، الأمر الذي يستدعي استجابة جماعية لمواجهته.
6 ـ إن الحق في تقرير المصير أصبح، وفقاً للاجتهاد الدولي، من القواعد الآمرة في القانون الدولي. وبالتالي، فإن على الدول كافة موجبين رئيسيين تجاه الشعب المطالب بحقه في تقرير مصيره: واجب المساعدة في تحقيق تقرير المصير (السياسي والاقتصادي والثقافي وغيره) لهذا الشعب. وواجب الامتناع عن كل ما قد يسيء أو يعرقل أو يؤخر تحقيق ذلك. والواقع أن إسرائيل تتعمّد كل هذه الانتهاكات بوسائلها القمعية المعروفة. وهذه الانتهاكات تعرّضها للإجراءات التي كان يجب أن تترتب عليها منذ زمن لو أن ثمة مراجعة جدّية اتخذت طريقها في هذا الاتجاه.
7 ـ ثم إن ثمة موجبين أساسيين تعهّدت إسرائيل، منذ قبولها في عضوية الأمم المتحدة، بالتزامهما: احترام القرار 181 الذي صدر عن الجمعية العامة في العام 1947 وقضى بتقسيم فلسطين دولتين يهودية وعربية، واحترام القرار 194 الذي صدر عن الجمعية ذاتها في العام 1948 وقضى بحق الشعب الفلسطيني في العودة إلى دياره. ولكن إسرائيل ثابرت على رفض القرارين معاً. وكان للجمعية العامة حيال ذلك موقف جريء ونادر هو الذي تمثل في قرار الجمعية 38/180 تاريخ 19/12/1983 وفيه: «.. إن إسرائيل ليست دولة محبة للسلم لأنها… لم تقم بالالتزامات المترتبة عليها بموجب قرار الجمعية العامة 273 المؤرخ في 11/5/1949. ولذلك تطلب الجمعية من كل الدول «قطع العلاقات الديبلوماسية والتجارية والثقافية مع إسرائيل».
المراجع الصالحة لمقاضاة إسرائيل
1 ـ إن المقصد الأساسي في مفهوم محاسبة ومعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية (وهي جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة، وجرائم العدوان، وجرائم الإرهاب، وغيرها من الجرائم الخطيرة) يهدف إلى تعزيز القيم الأساسية اللازمة لصمود المجتمع الدولي وقيم حقوق الإنسان ـ الفرد والإنسان ـ المجتمع والاستقرار العالمي.
2 ـ إن ضوابط القانون الإنساني الدولي (المتمثل عموماً باتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكولات الملحقة بها) تؤكد هي الأخرى على حقوق المدنيين الواقعين تحت الاحتلال. وبذلك، فإن أي تجاوز تقوم به القوة القائمة بالاحتلال بحق هؤلاء المدنيين يعرضها للتدابير العقابية اللازمة وفق ما جاء في هذه الاتفاقيات الدولية أصلاً.
3 ـ إن تقديم أي طلب أو مراجعة أو رأي استشاري أمام محكمة العدل الدولية لا يمنع مقدم هذا الطلب أو المراجعة من اللجوء إلى هيئات أخرى دولية كمجلس الأمن الدولي والجمعية العامة وغيرهما من المرجعيات الدولية الأخرى.
4 ـ إن أية شكوى أو مراجعة يمكن أن تقدم بحق إسرائيل ـ الدولة، من أجل إثارة مسؤوليتها الدولية أو بحق الفرد الإسرائيلي من أجل إثارة مسؤوليته الجنائية، يمكن أن لا تقتصر على حالة معينة أو تاريخ معين. ذلك لأن الجرائم الدولية لا تسقط مع مرور الزمن. وبالتالي فإن أية شكوى أو مراجعة يجب أن تكون مدعومة بوسائل الإثبات الكافية والمستندات الوافية.
5 ـ إن إدانة إسرائيل والإسرائيليين المدنيين والعسكريين لارتكابهم أياً من الجرائم الدولية بحق المواطن والوطن الفلسطيني تصبح أمراً واجباً. وبانتظار ذلك فإن مثل هذا الملف يحظى بالكثير من الشهادات الموثوقة والتقارير المفصلة من أجل أن يصبح متكاملاً وغنيّاً. المهم في الأمر أن تبدأ السلطة بتحضير هذا الملف وجميع الملحقات به.
أما المراجع الصالحة مبدئياً لمقاضاة إسرائيل والإسرائيليين فيمكن أن تتمثّل بـ:
أ ـ مجلس الأمن الدولي: الذي أصدر عشرات القرارات التي أكدت إدانة إسرائيل ـ الدولة، ليس في نطاق تعاطيها مع فلسطينيي الداخل الإسرائيلي وحسب وإنما في نطاق سياستها كقوة قائمة بالاحتلال، اعتباراً من العام 1967. إلا أن مجلس الأمن لم يتخذ أي قرار مستند إلى الفصل السابع (باستثناء القرار الرقم 62 الذي فرض بموجبه الهدنة بين إسرائيل والعرب 1948 ـ 1949) ضد إسرائيل، وبذلك استطاعت أن تتملّص من كل هذه القرارات ومن دون أي هاجس أو تحسّب.
ب ـ ولعل العودة، هنا، إلى الجمعية العامة كانت أكثر جدوى وفاعلية. ولا يجوز هنا أيضاً أن نغفل عن دور الجمعية الشجاع في بعض قراراتها التي صدرت بحق إسرائيل. ونذكر على سبيل المثال وليس الحصر بعضاً منها:
– القرار الذي اعتبر حقوق الشعب الفلسطيني منذ العام 1969 حقوقاً غير قابلة للتصرف ومنها حق العودة وتقرير المصير والعيش بسلام… إلخ.
– القرار الذي أقرّ للشعب الفلسطيني (في العام 1974) استخدام كافة الوسائل المتاحة من أجل تقرير المصير، بما في ذلك حقه باستخدام الكفاح المسلح.
– القرار الذي اعتبرت الجمعية العامة بموجبه الصهيونية على أنها شكل من أشكال التمييز العنصري (في العام 1975).
– القرار الذي اعتبرت بموجبه إسرائيل دولة غير محبة للسلام وطالب بالتالي بعزلها عن المجتمع الدولي (في العام 1982).
وإذا قيل إن قرارات الجمعية العامة غير ملزمة إجمالاً بخلاف قرارات مجلس الأمن الملزمة، فإن ثمة حالات تكون فيها قرارات الجمعية ملزمة أسوة بقرارات المجلس ذاته. وقد استفادت القضية الفلسطينية من بعض هذه القرارات الملزمة ذاتها.
ولاشيء يحول اليوم دون التأكيد الفلسطيني على ضرورة مراجعة هذه الجمعية العامة والوكالات الدولية المتخصصة الأخرى ومجلس حقوق الإنسان وغيرها من المرجعيات التي لا تواجه فيها أية شكوى فلسطينية بأي نقض من هنا ولا من هناك.
ج ـ أما مسألة العودة إلى محكمة العدل الدولية فهي تحتمل، مبدئياً، نوعين من المراجعة: إما من خلال رفع دعوى على إسرائيل من قبل السلطة الفلسطينية. وهذه الوسيلة متعذرة لسببين: إن السلطة لم ترتقِ بعد إلى مستوى الدولة المستقلة، ثم إن المحكمة ذاتها لا تستطيع أن تنظر بالدعوى ـ حتى ولو كانت مقدمة من دولة مستقلة ـ إلا إذا تقدمت الدولة الأخرى أيضاً.
أما الطريقة الثانية التي يمكن المحكمة أن تمارسها فهي من خلال الرأي الاستشاري. والواقع أن الجانب الفلسطيني نجح في استصدار رأي استشاري من قبل محكمة العدل الدولية حول قيام إسرائيل بتشييد الجدار الفاصل في الأراضي المحتلة. وكان الرأي الاستشاري آنذاك ذا جدوى قضائية هامة. فقد أفتت المحكمة (وهي المرة الأولى التي تتدخّل بها المحكمة الدولية بالمسألة الفلسطينية) أن ما قامت به إسرائيل في تشييد أقسام من هذا الجدار في الأراضي الفلسطينية المحتلة يشكّل خرقاً فاضحاً لاتفاقية جنيف الرابعة. كذلك أكدت على أنه يحقّ للفلسطينيين المتضرّرين من هذا الجدار التعويض عن الضرر الذي لحق بهم.
واستناداً لذلك، يمكن اللجوء ثانية لهذه المحكمة من خلال طلب تقدّمه أكثرية الجمعية العامة إليها في المستقبل. ولكن المهم، قبل ذلك، أن يثار السؤال حول ما إذا كانت السلطة الفلسطينية قد سعت فعلاً إلى ملاحقة هذا الرأي الاستشاري بما يمكن أن يحقّق كسباً وإن كان جزئياً من الرأي الأول؟
د ـ ولعل المرجع الأخير ـ والأكثر جدوى هنا ـ هو العودة إلى المحاكم التي تتمتع بولاية عالمية. ومبدأ الولاية العالمية يلحظ أن بعض الجرائم الدولية ـ وهي كلها غير إنسانية ـ يمكن أن تنظر بها وتعاقب مرتكبيها أية دولة أخرى وليس الدولة المعنية بها وحسب. ذلك لأن مرتكبي هذه الجرائم أعداء للجنس البشري عموماً وليس لدولة محددة بعينها، وإن كان الجرم قد وقع فيها.
وعلى هذا الأساس يمكن الجانب الفلسطيني أن يقيم الدعوى أمام أية محكمة ذات ولاية عالمية شرط أن يحمل جنسية هذه الدولة أو أن يثبت إقامة في ربوعها وأن تكون الجريمة من الجرائم الدولية التي يعاقب عليها القانون الدولي.
* انظر: أوراق فلسطينية وعربية (تحرير أنيس صايغ)، بيروت: الدار العربية للعلوم، 2008. عن السفير اللبنانية شفيق المصري