الايام -ديعة زيدان:”إن هؤلاء الذين لم يصلوا لأمانيهم يعيشون طوال حياتهم وهم يجرُّونها وراءهم، كمن رُبِطَت فيه جثة”، ولكن “هل تستحق الأمنيات البعيدة كل تلك المخاطرة؟ هل تفعل الهشاشة كل ذلك؟ هل يمكن أن تخرّب أمنية حياة إنسان؟”.
لعلّ الأماني، و”التعلّق بقشّة” من أمل، هي محور رواية المصري أحمد المرسي “مقامرة على شرف الليدي ميتسي”، الصادرة عن دار “دوّن” في القاهرة، وتُنافس على الجائزة العالمية للرواية العربية للعام 2024، بترشحها إلى القائمة القصيرة.
وتجمع الأمنيات بين العديد من شخصيات الرواية، وخاصة أولئك الذي جمعتهم أيضاً تلك الصورة بالأبيض والأسود، وفيها “غلام فوق فرس بيضاء، تُمسك بلجامها امرأة أجنبية تنظر للعدسة بهدوء، وعلى جانبيها رجلان، أحدهما عابس ينظر للعدسة نظرة كئيبة، بينما الآخر بفمه سيجارة، ويضع يديه في وسطه بزهو”!
ويتضح مع تقليب الصفحات أن الغلام هو “فوزان”، الذي تنطلق أحداث الرواية بوفاته مُسنّاً، وكان يمتطي الفرس العربية الأصيلة “شمعة”، إلى جانب “الليدي ميتسي” الإنكليزية، و”مرعي” سمسار الخيول صاحب السيجارة، والضابط المصري المُقال من قبل الإنكليز “سليم حقي” العابس ذي النظرة الكئيبة، وهي الصورة التي يعيدنا من خلالها المرسي إلى عشرينيات القرن الماضي.
وفي تلك الرحلة، نتعرف على صراع الديكة، وكان سائداً في مصر، وقتذاك، ومن ثم على سباقات ومراهنات الخيول وحلباتها التي جمعت الشخصيات معاً، مُتوسعاً في الحديث عن التحوّلات في ذلك العالم ذي الحكايات المُغيّبة، وخاصة ما يتعلق باقتحام الخيول الإنكليزية والأوروبية لمصر، والبدء تدريجياً بتنحية الخيول العربية، عن قصد أو دونه، وفيه دلالات سياسية تتعلق بطبيعة المرحلة، ما أدى إلى ندرتها.
“طول عمرنا نجيب الخيل العربي من الشام، قبل الحرب كانت الدنيا نعناع أخضر، بس من بعدها والسلطان في أستانة مانع تصدير الخيل العربي من هناك لمصر”، وذلك عقاباً لمشاركة مصر في الحرب ضده مع إنكلترا، و”اللي باقي من الخيل العربي في البلد أعمارها انقضت وبتموت، قام قومسيون الخيل جاب الخيل الإنجليزي يشبيها (يزوجونها ليخلطوا أنسابها) على خيل عربي عشان يزوّد العدد، بس جابوا خيل إنجليزي هفتانة وصغيرة، علشان بلا قافية ما تشوهش العِرْق العربي، بس الناتج إيه؟ عِرْق خسران صحته، معدوم العافية، ومفيهوش قيافة الخيل العربي”.
وعرّجت الرواية على حكايات ثورة سعد زغلول، التي تغلغلت إلى دواخل الضابط “سليم حقي”، الذي استفزه قيام قوات الاحتلال البريطاني بإطلاق النار على مجموعة من المتظاهرين المصريين الأطفال من طلاب المدارس، ما أدى إلى مقتل أحدهم، فتوجه إلى بيت زغلول، وهتف “لا رئيس إلا سعد” أكثر من مرة، ما كلفه “لباسة الميري” و”طربوشه”.
ولم يغفل المرسي الحديث عن “العملة الذهبية الشحيحة”، في فترة الحرب وبعيدها، “بعد أن منعتها الدولة”، ولكن “الصيارفة اليهود لديهم الحل، عندما اشتعلت الحرب طافوا الأسواق، واشتروا الجنيهات الذهبية من أيدي الناس والتجّار، وكانوا يدفعون على الجنيه 4 و5 مليمات زائدة على ثمنه، ولمّا شحّ الجنيه وأصبح أندر من الكبريت الأحمر، وكره الناس البنكنوت (العملة الورقية)، باعوا هذا الذهب بأغلى من سعره.. صحيح أنه سيشتريه منهم الآن بأعلى من تسعيرة الكمبيو (تسعيرة العملة الرسمية)”، ولكن ما باليد حيلة (وآدي الأرض وآدي السماء).
وعاد بنا المرسي أيضاً إلى حكاية “البارون” و”إيفيت بغدادي” التي يقال إنه عشقها، فأسس لها “مصر الجديدة”.. والبارون، الذي يعتبر قصره المعروف بـ”قصر البارون”، أثراً معمارياً غاية في الأهمية والندرة في قلب القاهرة، هو المليونير البلجيكي إدوار إمبان، وجاء إلى مصر قادماً من الهند في نهاية القرن التاسع عشر، فشرع في إقامة حي سكني جديد في صحراء القاهرة تحت اسم “هيليوبوليس” (مصر الجديدة)، وقرر إنشاء قصره الخاص فيها، فاختار تصميماً دمج بين العمارة الهندوسية والأوروبية.
ويحظى الحي الجديد “هيليوبوليس” بحضور كبير في التاريخ المصري، حيث الفندق الذي يحمل اسم الحي، ونادي سباق الخيول، وكان يشكّل حالة يتفاعل مع عوالمها الكثيرون، وخاصة الأثرياء، فـ”كانت البلد كلها تتأهب لبداية الموسم، نشرت الجرائد إعلانات بسكة حديد الحكومة المصرية بمناسبة بدء موسم السباق في هيليوبوليس، حيث خصصت قطاراً يقوم من كوبري الليمون الساعة 8 إفرنجي، ويصل حتى سراي القبة، أقرب المحطات لمضمار السباقِ، وأعلنت اللوكندات عن إفراغ أجنحة كاملة، من أجل استقبال الوافدين على العاصمة، لحضور السباق من أعيان المديريات البعيدة، وعُمَد القرى الذين يأتون مع خدمهم، ليشاركوا بخيولهم أو خيول مستأجرة، أو يتشاركون ملكيتها مع آخرين”، ولكن “في العام 1969 سيغلق مضمار السباق في هيليوبوليس باعتباره مظهراً من مظاهر الاستعمار والرأس مالية، وسيتحول المضمار إلى حديثة المريلاند، ثم إلى سينما مكشوفة، ثم سيطاله الخراب، ويُنسى ولا يبقى منه إلا اسم الشارع المؤدي لأطلاله (شارع السبق).
وعند الحديث عن الأمنيات والطموحات كثيمة محورية في الرواية، نجد أن “الليدي ميتسي” تركت بلدها، وقدمت إلى مصر لتطارد حلماً بالفوز في أحد سباقات الخيول لكون ابنها الذي توفى وكان في الرابعة عشرة من عمره كان يعشق الخيول وسباقاتها، وكانت تعتقد أن فوزها هذا سيعيد لها ابنها، في حين أن الضابط السابق “سليم حقي” بقي يطارد أحلامه التي تمحورت جميعها بتحسين أوضاعه الاقتصادية منذ إقالته، خاصة بعد مرض زوجته وما يتطلبه علاجها من مصاريف كثيرة، لا يكفيها ما تبقى من أثاث منزله الأثير، بعد اضطراره لبيع العديد من قطعه، وكذلك “مرعي” سمسار الخيول، الذي تتأرجح حياته ما بين واقع مرير في أزقة الحواري الفقيرة، وأخرى مغايرة تماماً برفقة “الباشاوات”، فبقي هو الآخر يطارد حبه الحلم “زينب”، أما “فوزان” فكانت أقصى أمنياته التخلص من تسلط عمه، واستعادة حق والده الذي نهبه العم، والبقاء بجوار والدته، وبين الخيول.
وتميّزت الرواية التي تطرح العديد من القضايا بشكل مباشر أو فيما وراء السرد، بلغة تنقل القارئ بمصطلحاتها المشروح منها أو الذي يتطلب البحث، إلى عوالم القاهرة في عشرينيات القرن الماضي، وحيوات أهلها، بالإضافة إلى التنقّل السلس بين أزمنة السرد وحكايات شخوصه، بطريقة تجعل القارئ يتغلغل إلى دواخل شخصيات الرواية، ويعايش صراعاتها النفسية، خاصة أنه قدمها بقالب إنساني، فهم بشرٌ لهم وعليهم، بمن فيهم الولد البدوي، والضابط المتقاعد، وسمسار الخيول، والسيدة الإنكليزية التي اختصرت الكثير بعباراتها: “السعادة في أحلامنا فقط، إن كل أمنية يصبو لها الإنسان ويصل إليها تصبح منقوصة، لا تطابق أحلامه، لن تكون أبداً كاملة (…) أقصى ما يمكن أن نصل إليه في هذه الدنيا هو أن نقف على عتبات أحلامنا (…) خائفة من أن أفقد الأمل بالوصول إليه، أحيانا تكون أمنياتنا غير المحققة هي ذريعتنا للاستمرار.. دائماً يوجد أمل، حتى بعد ضياع كل شيء، دائماً هو موجود”
“مقامرة على شرف الليدي ميتسي”.. الأمنيات غير المتحققة ذريعتنا للاستمرار!
