قبل يومين من موعد إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين القدامى، (كما كان مقرراً)، قام وزير الخارجية الأمريكية، جون كيري، بزيارة غير مقررة إلى عمان، والتقى هناك رئيس السلطة الفلسطينية وملك الأردن، كاشفاً بذلك إصرار إدارته على أن لا تنهي المهلة المحددة للمفاوضات دون تمديد، بعد أن أيقنت أن تحقيق اختراق في موضوع “اتفاق الإطار” أصبح غير وارد .
ومنذ البداية، كان واضحاً أن هدف المفاوض “الإسرائيلي” من هذه المفاوضات لم يكن تحقيق “اتفاق سلام”، بل كان تحقيق الفشل، ومن ثم تحميل الجانب الفلسطيني مسؤولية هذا الفشل، أو الاستسلام له بالموافقة على كل شروطه ومطالبه . لذلك رأيناه يزيد مطالبه، ويزيد تعنته يوماً بعد يوم، وهو يعلم أن الحدود التي كان يجب أن يتوقف عندها أي مفاوض فلسطيني قد تم تجاوزها بالفعل، ولم يعد لديه ما يقدمه . مع ذلك، ظل الجانب “الإسرائيلي” مثابراً على تحقيق هدفه، وظلت الإدارة الأمريكية تتبنى شروطه ومطالبه، وفي الوقت نفسه تضغط على المفاوض الفلسطيني ليقبل بها . وفي النهاية لم يعد أمام الإدارة الأمريكية غير تمديد المفاوضات هدفاً، ودون أن ينهي ذلك الابتزاز “الإسرائيلي” .
وفي القمة التي جمعت الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس عباس، مارس الأول كل الضغوط الممكنة على الثاني من أجل الموافقة على تمديد المفاوضات، في وقت كان عباس، واللجنة المركزية لحركة (فتح)، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكل الفصائل الفلسطينية، قد طالبت بإنهاء المفاوضات رافضة تمديدها، حتى أن عباس خرج على الناس قائلاً: إنه لن يمدد المفاوضات “ولا دقيقة واحدة” بعد 29 نيسان ،2014 بذلك وضع أوباما الرئيس الفلسطيني، وكل المؤسسات الفلسطينية في الزاوية، وأصبح لا بد من طريقة “تحايلية” للخروج من المأزق .
بعد قمة واشنطن، أطلق عباس تصريحاً شدد فيه على إطلاق سراح الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو، معتبراً أن ذلك سيكون دليلاً كافياً على “جدية إسرائيل”، وسعيها للتوصل إلى “اتفاق سلام” .
كان ذلك التصريح أول غيث الموافقة على تمديد المفاوضات، لكن ذلك لم يرض حكومة نتنياهو ومستوطنيه، بالرغم من أن التمديد في الأصل مطلب “إسرائيلي” . لذلك بدأت الحكومة “الإسرائيلية” اللعب على موضوع الأسرى، بالتنسيق مع كيري وإدارته، فبعثت برسالة إلى الإدارة الأمريكية، كما ذكرت صحيفة (يديعوت أحرونوت 23-3-2014)، جاء فيها: “في حال عدم تعهدكم بتمديد المفاوضات مع الفلسطينيين، فلن يتم إطلاق سراح أسير واحد”، وفي الرسالة رد على أبو مازن يقول: “إذا كان أبو مازن يريد إطلاق سراح الأسرى، عليه أن يدفع رسوم جديته”، واحدة بواحدة، علماً بأن كل الناطقين باسم السلطة الفلسطينية كانوا قد أكدوا أن إطلاق سراح الأسرى لا علاقة له بالمفاوضات، بل ب “مبادرات حسن النية وبناء الثقة” من جانب “الإسرائيليين” .
لم تنته ألاعيب المفاوض “الإسرائيلي” عند ذلك، بل بدأ في أوساط الحكومة ومراكز القرار “الإسرائيلي” حديث حول (14) أسيراً من عرب الداخل ،48 كان كيري قد تعهد لأبو مازن بأن تشملهم الدفعة الرابعة، حيث أعلنت تلك الأوساط أن ذلك لا يلزم السلطات “الإسرائيلية” بإطلاق سراحهم! وحتى موعد إطلاق من سيطلق سراحهم، ثار حوله جدل، فأصبح التاريخ بعد أسبوعين، وقد يكون في شهر مايو/ أيار، بدلاً من أن يتم في 28 مارس/ آذار الجاري! أكثر من ذلك، بادر حزب (العمل) “الإسرائيلي” بتقديم طلب للحكومة، وقعه آخرون، طالبوها بعدم إطلاق سراح أسرى الدفعة الرابعة، واستبدالها بتجميد البناء في المستوطنات ما دامت المفاوضات جارية . وبرروا ذلك بأنه يمكن وقف تجميد البناء في أي وقت، لكن لا يمكن إرجاع الأسرى إلى السجون .أليست هذه كلها عقبات مفتعلة لممارسة أكبر ضغط ممكن على السلطة لتوافق على التمديد؟
بعد قمة واشنطن، التي رافق فيها صائب عريقات الرئيس عباس، وشارك في المباحثات التي أجريت مع أوباما وكيري، قال عريقات في ندوة حوارية عقدها مركز ويلسون لدراسات الشرق الأوسط، رافضاً المزيد من المفاوضات: “أنا مع التفاوض، وقد فاوضت كل هذه السنين الطويلة . . إلا أننا فاوضنا بما فيه الكفاية، ووصلنا إلى لحظة القرار، ولا حاجة لمزيد من المفاوضات” .
ثمانية أشهر من المفاوضات كانت غطاء لعمليات استيطان وتهويد غير مسبوقة، لم تترك مجالاً للآمال التي روجوا لها كذباً وتضليلاً، وما من حاجة للقول إن المفاوضات كأسلوب وحيد استسلام غير مشروط في ظل موازين القوى المختلة . أما ما يجب قوله في هذا الموضوع والجدير بالتوقف عنده، فهو إن كل السوابق التاريخية كانت تبدأ بإطلاق سراح جميع الأسرى، كشرط للاستمرار في المفاوضات . حدث ذلك في المفاوضات بين فيتنام والولايات المتحدة لوقف الحرب على فيتنام، وحصل أيضاً في المفاوضات مع نيلسون مانديلا وحزبه للتوصل إلى إنهاء الصراع في جنوب إفريقيا، وكان يجب أن يحدث ذلك في المفاوضات “الإسرائيلية” – الفلسطيينية . ودائماً كان ميزان القوى هو الذي يقرر أن تكون مفاوضات أو لا تكون .
حكومة الكيان الصهيوني أرادت أن تقايض عدداً محدوداً من الأسرى الفلسطينيين تستطيع إرجاع معظمهم، واعتقال أكثر منهم في يوم واحد، بهدف تمديد المفاوضات، تكريساً للوضع القائم وتمكيناً لسلطات الاحتلال لمواصلة عمليات الاستيطان والتهويد والتهجير، بينما تقايضهم سلطة رام الله ببقاء غير شرعي، وتمويهاً على استراتيجية فاشلة . هي مقايضة يجب أن تكون مرفوضة .
عن الخليج الاماراتية