عندما قامت فيتنام الشمالية بغزو فيتنام الجنوبية وحطمت جيشها، توقع معظم المراقبين والمحللين أن يعقب ذلك حمام دم. كانت الحرب الفيتنامية جارية منذ وقت طويل وعانى الثوار الشيوعيون خسائر فادحة، كما ألحقوا أضراراً كبيرة بأعدائهم أيضاً، في ميادين المعارك المختلفة، والأهم من ذلك في الآلاف من القرى الصغيرة. هناك، كانت الحرب قد اكتسبت طابعاً مألوفاً في الكثير من الحروب الأهلية –الجار الشرس ينقض على الجار العنيف. وفوق كل شيء، كانت مؤسسة الدولة والجيش الفيتناميين الجنوبيين ضخمة، بعد أن غذتها الولايات المتحدة بالمليارات من المساعدات. وقد التقت عوامل الرغبة في الانتقام، والممارسة الشيوعية، وضرورة قمع نظام قديم كبير الحجم، لتشير كلها إلى احتمالية التفشي الهائل لأعمال العنف. لكن ذلك لم يحدث. وقد جرى بالتأكيد إعدام المئات من الناس، وتم إرسال عشرات الآلاف إلى معسكرات “إعادة التربية”، واضطر الكثيرون غيرهم إلى الفرار من البلاد. لكن حدوث حمام دم بأبعاد أسطورية لم يتحقق. غير أن هناك واحداً وقع فعلاً مع ذلك، في كمبوديا المجاورة، حيث لم يكن أحد يتوقع ذلك عملياً.
توضح هذه المقالة القصيرة تلك المطبات التي قد تخالط محاولة فهم العنف في سياق الحروب الأهلية، وهو الاتجاه الذي برز بالفعل في قراءة الجولة الأخيرة من القتال الدائر في العراق. وثمة في الحقيقة إغواء كبير في رؤية أنماط حيث قد لا يوجد أي منها. فعلى سبيل المثال، أصبحت الموضة الأخيرة في هذه الأوقات هي التنبؤ بحدوث حمام دم طائفي في العراق، والذي سيكون نتيجة للهجوم الجهادي. وتستند هذه النبوءات إلى أن الموجة السابقة من عمليات القتل الطائفي في العراق، والسجل الدموي للدولة الإسلامية، (المعروفة سابقاً باسم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام “داعش”) في سورية، وتصريحاتها الخاصة بعد أن استولت على الموصل، كلها تبدو وأنها تؤكد هذه التوقعات. ومع ذلك، ينبغي أن نكون متشككين إزاء هذه التفسيرات والتكهنات.
كبداية، يجب ملاحظة أن البيانات عن العنف في الحروب الأهلية تكون دائماً تقريباً غير مكتملة: في بعض الأحيان يكون هناك إفراط في زيادة الأعداد وأحياناً إنقاص كبير فيها، بينما يظل هناك دائماً تقريباً قدر كبير من المعلومات المفقودة أيضاً. ولعل الأهم من ذلك هو أن السياق يكون غائباً دائماً تقريباً بدوره. وحتى في عصر ما يبدو توفراً وفيراً للبيانات في الوقت الحقيقي، فإن قدراً أكبر بكثير من الأمور التي ربما تكون جارية (ويكاد يكون من المؤكد أنها تحدث) تحت الرادار -وهذا أمر بالغ الأهمية لفهم ما يحدث. على سبيل المثال، كنت قد بينت أن جزءاً من العنف الذي يتم التقليل منه في الإحصاء، يتكون من حجم القتل الفردي “الانتقائي” للمشتبه بتعاونهم مع العدو، والذي قد يتجاوز في حجمه المذابح الجماعية المشهدية المذهلة. وفي حقيقة الأمر، يبدو تقرير جديد للأمم المتحدة وأنه يقترح مثل هذا النمط، مشيراً إلى وقوع 757 قتيلاً، معظمهم من المدنيين، في الفترة ما بين 5 إلى 22 حزيران (يونيو)، في المحافظات التي شهدت القدر الأكبر من نشاط المتمردين في العراق. وفي الوقت نفسه، بالغت تقارير “الدولة الإسلامية” الأولية في تصوير حصيلة عمليات الإعدام الجماعية، حين تحدثت عن إعدام نحو 2000 من أسرى الجيش العراقي، وهو ما يشير إلى أننا يجب أن نأخذ مزاعم التقارير الذاتية بما هو أكثر من مجرد ابتلاعها مع بعض الملح. وفي حقيقة الأمر، تشير التحليلات الأخيرة إلى أن عمليات الإعدام الجماعية حول تكريت ربما كانت أقل بكثير مما زعمته الأرقام.
الأرقام الحقيقية، وموضعها الحقيقي بين عمليات القتل العشوائية والانتقائية، تهم كثيراً لأن لها دلالات كبيرة الاختلاف حول طبيعة الصراع. فإذا تبين أن القدر الأكبر من ضحايا العنف الذي مارسته “الدولة الإسلامية” يتكون من الشيعة الذين يتم استهدافهم بشكل عشوائي من المقاتلين والمدنيين، فإن ذلك سيكون منسجماً مع أحد تفسيرات هدف “الدولة الإسلامية” الاستراتيجي الرئيسي، باعتبار أنه يتمثل في إثارة حرب طائفية شاملة بين العراقيين السنة والشيعة. والمنطق في هذا واضح تماماً: سوف يثير العنف العشوائي ضد الشيعة ردود فعل انتقامية عشوائية بنفس المقدار ضد السنة يقوم بها الشيعة، على نحو ينشط الشق الطائفي ويجبر السنة والشيعة، بغض النظر عن ميولهم الأساسية أو الحقيقية، على الاصطفاف مع أكثر ممثلي طوائفهم راديكالية. ووفقاً لهذا المنطق، فإن “الدولة الإسلامية” ستظهر وأنها هي بطل السنة، وستحوز على قاعدة دعم أكبر بكثير مما ستحصل عليه بغير ذلك.
مع ذلك، ربما تقترح تجربة الدولة الإسلامية في سورية قصة مختلفة. فعلى الرغم من الافتقار إلى إحصاء منهجي وموثوق للعنف، والذي يأخذ في اعتباره منطق الاستهداف الذي تتبناه المجموعة، كانت هناك عدة عمليات عنف مختلفة قيد العمل. أولاً، كانت الدولة الإسلامية تقتل، غالباً بطرق تصويرية تحظى بتغطية إعلامية ودعائية مكثفة، مقاتلي الأعداء –بشكل أساسي مقاتلي النظام، لكنها كانت تقتل أعضاء التنظيمات المنافسة من الثوار أيضاً. وقد شكل قتل الأسرى صفة مشتركة لأعمال الحرب ما قبل الحداثية، وهو تكتيك كان يقصد إلى إرعاب الأعداء والتسبب في الانشقاقات. كما أنه مصمم ليعكس الإصرار والعزم، وهو تكتيك عادة ما استخدمه اللاعبون العسكريون الأضعف. وفي حالة “الدولة الإسلامية”، تم استخدامه على ما يبدو كاستراتيجية للتجنيد. ثانياً، كانت المنظمة تقتل المشتبه بتعاونهم مع أعدائها، بما في ذلك النظام السوري، أو الأكثر شيوعاً خصومها من الثوار. ويشكل القتل “الانتقائي” للمشتبه بأنهم متعاونون من الأعداء أكثر التكتيكات استخداماً من جهة الثوار والحكومة على حد سواء في سياقات الحروب الأهلية. ثالثاً، كانت المجموعة تستهدف الأفراد الفاسقين أو “سيئي السلوك” في مناطق سيطرتها، من اللصوص الصغار إلى أولئك الأفراد الذين لا يحترمون سلطتها. ومرة أخرى، تعتبر هذه ممارسة شائعة لدى الحكام الثوريين وبناة الدول التي تتحول من محطات لقطع الطررق إلى دول ناشئة، وتهدف الممارسة إلى بناء الدعم من المجتمع. وعندما لا يتم تطبيق هذا التكتيك بطريقة مفرطة، فإنه عادة ما يفي بغاياته.
أخيراً، يبدو أن المجموعة انخرطت في تنفيذ مذابح عشوائية ضد المدنيين الذين ينتمون إلى طائفة دينية مختلفة (العلويين والمسيحيين في سورية، والشيعة في العراق). وربما القصد من ذلك هو إثارة حرب طائفية، على أساس الخطوط الموصوفة أعلاه. ومع ذلك، يمكن عرض تفسيرات بديلة (أو مكملة) أيضاً. على سبيل المثال، ربما يكون الأمر أن هذه الحوادث تعكس ديناميات الصراع المحلي أكثر من كونها تعكس استراتيجية كبرى للحرب الأهلية، واستجابة لسياقات معينة في ميدان المعركة. وفي سياق متصل، ربما يكون هذا العنف نتيجة لمبادرات قائد محلي، أو أنها ربما تعكس انقطاعات في سلسلة القيادة أيضاً، وكلا الأمرين حدثان شائعان في ميادين المعارك المتشظية في الحروب الأهلية. أو أنه ربما يكون نتيجة لعداوات قائمة منذ وقت طويل بين المجتمعات المحلية المتنافسة والجماعات التي صادف أنها أعضاء في طائفة مختلفة، أكثر من كونها تتتعلق بالطوائف في حد ذاتها. وفي كل هذه المناسبات، ربما يمكن فهم هذا العنف على أنه محلي، والذي يفشل في التصاعد ليصل إلى مستوى الطائفة.
ما الذي يمكن أن نفهمه من كل هذا؟ أود التركيز على ثلاث نقاط في هذا المجال. أولاً، ليس العنف عملية شفافة، وينبغي أن نكون حذرين إزاء استخلاص استنتاجات سهلة مما يرشح من ضباب ميادين الحرب الأهلية. ثانياً، ليس هناك شيء إسلامي أو جهادي بشكل مخصوص في عنف الدولة الإسلامية. فقد استخدم الممارسات الموصوفة أعلاه طيف متنوع من المتمردين، وكذلك لاعبون (في السلطة) أيضاً في الحروب الأهلية في كل الأزمنة والأماكن. ولذلك، ينبغي تجنب التأويلات الثقافية السهلة. ثالثاً، إذا كان من الضروري تشخيص “الدولة الإسلامية”، فإنها يجب أن تكون فاعلاً ثورياً (أو راديكالياً). وتعرض هذه الجماعات هدفاً يتعلق بالتغيير السياسي والاجتماعي؛ وهي تتشكل من نواة عالية الحوافز، وتقوم بالتجنيد باستخدام الرسائل الأيديولوجية (ولو أنه ليس كل مجنديها أو المتعاونين معها مدفوعين أيديولوجياً)، وهي تميل إلى الاستثمار بكثافة في تلقين أتباعها عقائدياً. كما أنها تميل أيضاً إلى أن الهيمنة على خصومها من الثوار المنظمين بطريقة أقل فعالية (أنظروا الأمثلة في جبهة التحرير الشعبية الأريتيرية أو جماعة نمور التاميل في سيريلانكا)، لكن عقب أخيل لهذه الجماعات يكمن في ميولها الراديكالية الخاصة، والتي عادة ما تثير السكان المحليين ضدها إذا ما سنحت الفرصة، كما حدث في حالة تنظيم القاعدة في العراق. ويمكن أن تتبنى الجماعة الثورية مجموعة من القضايا الأخرى (القومية، الهويات العرقية أو الطائفية)، لكن هوياتها الثورية تظل شأناً مركزياً وتساعدنا في فهم الكثير من أنشطتها. وفي هذا الصدد، لدينا الكثير لنتعلمه من مراجعة سلوك واستراتيجية الجيل الأخير من الفاعلين الثوريين، ثوريي حقبة الحرب الباردة.
باختصار، سوف يعرض تحليل “الدولة الإسلامية” باعتبارها لاعباً ثورياً يصادف أنه إسلاموي النزعة، فضاء أكثر وعداً للتأويل من النظر إليها على أنها إما لاعب إسلامي أو طائفي بكل بساطة.
ستاثيس كليفاس * – (الواشنطن بوست) 7/7/2014
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
*أستاذ أرنولد وولفرز للعلوم السياسية في جامعة ييل.