في تقويمهم التدابير العسكرية والامنية التي اتخذتها حكومة بنيامين نتانياهو ضد الفلسطينيين خلال الايام المنصرمة، لاحظ معلقون عسكريون اسرائيليون ان اسرائيل بدت وكأنها تفقد سلاح الردع. ولهذا السلاح معنى خاص واسم محدد عند الاسرائيليين ألا وهو «خيار شمشون» (Samson Option). وتحمل التسمية دلالة صريحة على مضمون الخيار. فكما آثر شمشون هدم المعبد عليه وعلى غيره قبل ان يقتله آسروه، فإن التلويح الاسرائيلي بالخيار الشمشوني يؤكد، كما جاء في كتاب رون روزينباوم «كيف تبدأ النهاية: الطريق الى الحرب العالمية الثالثة» ان اسرائيل لا تراعي قاعدة «التناسبية» في سياسة الردع التي تطبقها، وأنها لا تأخذ بالقاعدة التوراتية التي تقول «العين بالعين والسن بالسن»، بل إنها ستكلف الجهة المعادية أضعافاً مضاعفة لقاء الضرر الذي تلحقه بالإسرائيليين. استطراداً يمكن وصف الردع الاسرائيلي بأنه نمط من الارهاب الردعي وليس مجرد الردع فحسب.
يعتقد اسرائيليون ان هذا الخيار الذي اثبت فاعلية في الماضي، فقد بعض تأثيره في السنوات الاخيرة وأن المعارك الاخيرة مع «حماس» اكدت هذا التراجع. فعلى رغم ميزان القوى الذي يميل بصورة حاسمة الى جانب اسرائيل، وعلى رغم التهديدات التي اطلقها المسؤولون الاسرائيليون، وعلى رغم التلويح بعمليات انتقامية واسعة، استمر الفلسطينيون في اطلاق صواريخهم على اهداف اسرائيلية وواكبت هذه الصواريخ حركات احتجاج واسعة قام بها فلسطينيو الداخل. يستنتج المعلقون والمحللون الاسرائيليون انفسهم من ردود الفعل الفلسطينية هذه ان اسرائيل بحاجة الى اعادة النظر في قدرتها الرادعة وتعزيزها على نحو يحد من عزم الفلسطينيين على خوض مغامرات جديدة ضدها.
تراجع الخيار الشمشوني قد يلعب دوراً في إقناع الحكومة الاسرائيلية بالاستجابة الى الوساطة المصرية والعودة الى التهدئة. ولسوف تستفيد اسرائيل من فترة التهدئة المحدودة لإغلاق الثغرات الامنية والعسكرية التي تسربت الى القوات الاسرائيلية. اذا نجح الاسرائيليون في معالجة هذه الاوضاع، فإنهم يعتقدون انه سيكون بإمكانهم تكبيد الفلسطينيين خسائر كبرى تعيد للخيار الشمشوني هيبته. ولكن هذا الاحتمال غير مؤكد، اذ إن حكومة نتانياهو التي تواجه انتقادات الجماعات التي تفوقها تطرفاً قد تجد نفسها مساقة الى طرح الحسابات العقلانية جانباً والى الاستمرار في خوض الجولات الانتقامية ضد الفلسطينيين.
في كل الحالات، تبدو الدعوة التي اطلقها اسماعيل هنية، رئيس الحكومة الفلسطينية المستقيلة، الى تحرك فلسطيني وعربي وإسلامي لإيقاف العدوان على غزة في محلها. فهذا التحرك ضروري سواء وافقت حكومة نتانياهو على العودة السريعة الى التهدئة ام لم توافق. انه ضروري لإنقاذ غزة من العدوان الاسرائيلي العسكري. وهو ضروري اذا وافقت اسرائيل على التهدئة لأنها مقابل ذلك ستسعى الى فرض شروط قاسية على الفلسطينيين. فإذا شعر الاسرائيليون بأن الفلسطينيين لا يقفون وحدهم، بل انهم يستندون الى دعم عربي واسلامي فإنهم قد يتراجعون عن شروطهم المتعسفة. بهذا المعيار تبدو دعوة هنية في محلها. ولكن هناك معياراً آخر يجعل لهذه الدعوة ميزة اضافية تتجلى في انها ليست موجهة الى جامعة الدول العربية وحدها، بل الى القيادات الفلسطينية أيضاً.
فخلال النسبة الاكبر من الملمّات التي مرت بها حركة المقاومة الفلسطينية كان من المعتاد ان تبادر الى طلب تدخل جامعة الدول العربية ومساعدتها للتغلب على الأخطار المحدقة بها. كان التوجه الى الجامعة بطلب المساعدة مصيباً من حيث المبدأ، ولكن مثيراً للجدل احياناً. فمن حيث المبدأ كانت مطالبة القيادات العربية النظر في الاوضاع الفلسطينية واتخاذ التدابير الجماعية التي تحمي شعب فلسطين وتنصره على الاحتلال والعدوان، تعبيراً ملموساً عن الفكرة القائلة إن قضية فلسطين هي قضية عربية مركزية او حتى قضية العرب المركزية، وعن الفكرة القائلة ايضاً ان المشروع الصهيوني لا يشكل خطراً على الفلسطينيين وحدهم بل على العرب، اذ إن الاهداف الاستراتيجية لهذا المشروع تشمل، كما قال ارييل شارون، «المنطقة الممتدة من المغرب الى كراتشي ومن جنوب روسيا الى وسط افريقيا».
من هذه الناحية، فإن دعوة الجامعة العربية الى الاجتماع للنظر في العدوان الاسرائيلي ليست ضرورية بل ينبغي اعتبارها، في الظروف الطبيعية لأية منظمة اقليمية فاعلة، أمراً بديهياً. فبصرف النظر عن فقه السياسة العربية وفقه التعاون الاقليمي، فإن غريزة البقاء وحدها كفيلة بأن تدفع أولي الأمر الذين تواجههم تحديات متشابهة الى التشاور والتعاون بغرض صد أخطار داهمة. وفي اسوأ الحالات، فإن عقد اجتماع اقليمي للنظر في قضية عدوان صريح كما هو الأمر في غزة، قد لا ينجح من حيث النتائج ولكنه قد لا يضر. تلك هي النظرة السائدة في الاوساط العربية. فهل هذه النظرة في محلها؟
ان هذه التجارب تدل على ان مثل هذه الاجتماعات قد تسبب ضرراً بعيد المدى اذا تضمنت وعوداً لا تستطيع الجامعة تنفيذها. وهذا ما حصل في الماضي وما يحصل اليوم وفي كل يوم ما لم يتغير واقع النظام الاقليمي العربي وما لم تتغير النظرة اليه والى صلته بالقضايا العربية الكبرى. ان هذا النظام لم يتأسس بغرض ارضاء فريق من العرب الذين يتطلعون الى فكرة الوحدة او حتى التعاون الاقليمي. انه تأسس بقصد تحقيق الغايات المتوخاة من هذا التعاون مثل حماية الامن الاقليمي العربي بما في ذلك تحرير الاراضي العربية المحتلة، وتحقيق التنمية السريعة والعدالة الاجتماعية والانتقال الى النظم الديموقراطية والتعددية السياسية. وفي هذا السياق، لم تستطع الجامعة ان تقدم قصة نجاح واحدة للمواطن العربي. وفي هذا السياق ايضاً، فإن الدعوة الى تحريك دور الجامعة في قضية العدوان الاسرائيلي على غزة ستتحول الى مناسبة جديدة للتنديد بعجز الجامعة وفشلها ومن ثم للتنديد بالفكرة التي قامت عليها.
تجنباً لهذه الحلقة المفرغة، دأب بعض المسؤولين العرب على المطالبة بأن يسبق اجتماعات الجامعة تحضير كاف. بدا هذا الموقف صحيحاً لو اقترن بالدعوة الى تطوير الجامعة وتطوير مؤسسات العمل العربي المشترك بحيث تملك المرونة والجاهزية الكاملتين لمواجهة الحالات الطارئة، هذا فضلاً عن تطبيق المشاريع البعيدة الأمد التي تعود بالنفع على المنطقة العربية. يمكننا ان نضيف سبباً آخر لللتحفظ على مطالبة الجامعة بالتدخل، ألا وهو توجيه هذه الدعوة الى الجامعة دون غيرها من المنظمات الاقليمية والدولية المعنية. ولكن دعوة هنية تجنبت هذا المنحى، وتضمنت نداءات مماثلة الى القيادات الفلسطينية والى منظمة المؤتمر الاسلامي ايضاً.
تنطوي الدعوة الى القيادات الفلسطينية على تأكيد ضمني بضرورة ترسيخ الوحدة الفلسطينية بعدما أُصيبت هذه الوحدة بشرخ كبير. ولكن حبذا لو انطوت هذه الدعوة ايضاً على توضيح لنوعية مشاركة القيادة الفلسطينية في الجامعة العربية. فهذه المشاركة كانت تقتصر على توضيح حاجات العمل الفلسطيني المباشرة، سواء ما تعلق منها بالعمل السياسي او بالمساعدات على صعد اخرى. ولكن حتى يكون النظام الاقليمي العربي قادراً على توفير حاجات العمل الفلسطيني، ومتطلبات احتواء التوسعية الاسرائيلية، لا بد من ان تتوافر لهذا النظام نفسه القدرة على الاستمرار والتطور. حتى تكون القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية، لا بد من ان يبقى «العرب» وأن تنتعش «القضية» وأن يبقى «المركز». وفيما تعتبر بعض القيادات الفلسطينية هذه المعطيات نوعاً من «تحصيل الحاصل»، وأنها باقية ابداً، فإننا نشهد اليوم ما يقترب من معارك فاصلة لتبديل هوية المنطقة تبديلاً نهائياً، وللذهاب بالمؤسسات التي تعبر عن هذه الهوية. وكان من معالم هذا الواقع غياب المشروع العربي لتحرير الاراضي العربية المحتلة، كما لاحظت حركة «حماس» في نشرة تعريف بالحركة. من اجل تغيير هذا الواقع، وحرصاً على القضية الفلسطينية ومستقبل فلسطين، تستطيع القيادات الفلسطينية وضع مثل هذا المشروع ومناقشته مع القيادات العربية المعنية والتعاون معها على وضعه موضع التنفيذ. النجاح في هذا المسعى يساهم في تعطيل خيار شمشون وحماية الشعب الفلسطيني من العدوان الاسرائيلي.
الحياة اللندنية