ليس في استقالة مارتين انديك المبعوث الأميركي المكلف متابعة عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين أي مفاجأة من أيّ نوع. تعكس الإستقالة التغيير الذي طرأ على الأولويات في الشرق الأوسط. ما لا بدّ من الإعتراف به اليوم قبل غد أن القضية الفلسطينية لم تعد جوهر النزاع في المنطقة ولم تعد القضيّة الأولى للعرب. القضية الأولى التي ستشغل الشرق الأوسط، ربّما لمئة سنة، تتمثّل في انفلات الغرائز المذهبية. هناك من غير العرب من استثمر في الغرائز المذهبية خدمة لمشروعه التوسّعي في المنطقة. المؤسف أن العرب يحصدون حاليا الثمار المرّة لهذا الإستثمار.
من الباكر القول وداعا للقضيّة الفلسطينية، لكنّه في الإمكان القول وداعا لحلّ الدولتين.
في ضوء ما يدور في الشرق الأوسط، من العراق، إلى سوريا، إلى لبنان، إلى اليمن، لم تعد اسرائيل في وارد التوصّل إلى حلّ القائم على فكرة قيام دولة فلسطينية “قابلة للحياة” تمتد على معظم اراضي الضفة الغربية فضلا عن قطاع غزّة وتكون عاصمتها القدس الشرقية. ستستفيد اسرائيل حتما من الوضع الفلسطيني وليس من الوضع العربي فقط. ففي كلّ يوم يمرّ هناك تصرّفات لـ”حماس” تصبّ في خدمة التوسّع والإحتلال.
ليس سرّا أن انديك، الذي سبق له أن عمل سفيرا للولايات المتحدة في اسرائيل، ليس شخصا معاديا لها. على العكس من ذلك، يعتبر الرجل من المتفهمين لإسرائيل ومواقفها، بل متعاطفا معها. ولكن يبدو أن حكومة بنيامين نتانياهو تجاوزت كلّ حدود وقرّرت نسف عملية السلام التي تشمل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وتبادلا للأراضي يجعل اسرائيل ترسم حدودها النهائية وتنسحب من بعض البؤر الإستيطانية في الضفة الغربية.
اغتالت حكومة بيبي نتانياهو عملية السلام وخيار الدولتين. ولكن ماذا بعد؟ ما الذي سيفعله الفلسطينيون في ظل حكومة لا تؤمن بالسلام بأي شكل. إنّها حكومة ترفض الإعتراف بأنّ هناك شريكا فلسطينيا يمكن التفاوض معه وأن هناك حدّا أدنى من الشروط التي لا بدّ من الإستجابة لها في حال كان مطلوبا التوصّل إلى تسوية معقولة ومقبولة تساعد في ابعاد الأرض الممتدة من البحر المتوسط إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن، أي أرض فلسطين التاريخية، عن التجاذبات الإقليمية وعملية اعادة رسم الخرائط التي بدأت في اليوم الذي قرّر فيه جورج بوش الأبن احتلال العراق وتقديمه على صحن من فضّة إلى ايران.
من الواضح أنّ هناك خيارا اسرائيليا جديدا، إنّه في الواقع خيار قديم جدّا، يقوم على متابعة الإستيطان بغية فرض واقع جديد على الأرض. يبدو أن وتيرة الإستيطان، هذه الأيّام، في الضفّة الغربية أذهلت حتّى رجلا مؤيدا لإسرائيل مثل مارتن انديك. هل تنجح اسرائيل في خيارها الهادف إلى جعل الضفّة الغربية أرضا طاردة لأهلها؟
تستفيد حكومة نتانياهو من عوامل عدّة تخدم سياستها الإستيطانية. في طليعة هذه العوامل عدم وجود إدارة أميركية جدّية تملك الرغبة في فرض ارادتها. هناك ادارة باراك أوباما التي يصدر عنها، بين وقت وآخر، كلام جميل. لكنّ هذا الكلام يظلّ مجرّد افكار في حاجة إلى من ينفّذها على أرض الواقع.
تأكّد، بما لا يدع مجالا للشكّ، أنّ وزير الخارجية الأميركي جون كيري، الذي زار اسرائيل والأراضي الفلسطينية مرّات عدة، لا يملك سوى النيات الحسنة، خصوصا عندما يكون هناك رئيس أميركي لا يعرف معنى العصا الغليظة.
شتّان ما بين الثنائي جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر اللذين أجبرا اسرائيل على حضور مؤتمر مدريد في العام ١٩٩١ وبين الثنائي أوباما ـ كيري الذي اثبت حتّى الآن أنّه لا يعرف شيئا عن الشرق الأوسط. أكثر من ذلك، تبيّن أنّ شخصا مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بات قادرا، بمساعدة من وزير خارجيته سيرغي لافروف، على التأثير في قرارات الإدارة الأميركية وجعلها تقف موقف المتفرّج حيال المجزرة التي يرتكبها النظام السوري في حقّ شعبه.
في ظلّ التردّد الأميركي والوضع الإقليمي، ليس ما يجبر حكومة اسرائيلية تضمّ مجموعة لا بأس بها من المرضى، بالمعنى النفسي للكلمة، الذين يؤمنون بالإستيطان. لا يؤمن هؤلاء بشي آخر غير الإستيطان. لا وجود لأيّ رغبة في التوصل إلى تسوية ما تضمن الحدّ الأدنى من الحقوق للفلسطينيين.
إضافة إلى الوضع الإقليمي التردد الأميركي، تستفيد اسرائيل ايضا من الوضع الفلسطيني. هناك من خطف حديثا ثلاثة مراهقين اسرائيليين في الضفة الغربية. كان هؤلاء في الخليل حيث لا يجب أن يكونوا، لكنّ حكومة نتانياهو لا ترى في عملية الخطف، التي دانها رئيس السلطة الوطنية محمود عبّاس، سوى فرصة أخرى لتأكيد رغبتها في تدمير عملية السلام…أو ما بقي منها.
انتهت عملية السلام وانتهى خيار الدولتين. في العام ١٩٤٧، استفادت اسرائيل من رفض العرب قرار التقسيم. في السنة ٢٠١٤، تسعى إلى التوسع مجددا متجاهلة أن ليس طبيعيا بقاء الشعب الفلسطيني خارج الخريطة الجغرافية للشرق الأوسط. هذا الشعب موجود على الخريطة السياسية للمنطقة. هل يمكن الغاؤه؟ هذه المرة، تخوض اسرائيل معركة الغاء شعب. لو كان مثل هذا النوع من الإنتصارات على الشعوب ممكنا، لما كان الأكراد في طريقهم إلى تحقيق حلم الدولة المستقلّة.
بدل الإستفادة من تدهور الوضع العربي عموما ومن التردد الأميركي ومن الأخطاء الفلسطينية، من أجل تكريس الإحتلال، يبدو منطقيا أكثر الإستفادة هذه الأيآم من الدرس الكردي. ذلك قد يوفّر الكثير من العنف والتطرّف مستقبلا. إنّه العنف الذي سيطال الإسرائيليين قبل غيرهم…خصوصا أنّه ليس بعيدا اليوم الذي سيزيد فيه عدد الفلسطينيين على عدد الإسرائيليين في أرض فلسطين. ماذا سيفعل هؤلاء؟
هل اسرائيل في منأى عن الإنفجار السكّاني العربي في فلسطين التاريخية، أم ستباشر سياسة من نوع آخر تترافق مع الإستيطان، أي سياسة طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية..
عن ايلاف