في كانون الثاني (يناير) الأخير، كانت صورة وزعتها خدمة إخبارية دولية قد أثارت ضجيجاً في غرف المحادثة على الإنترنت. وعرضت الصورة جنديا فرنسيا يقف في نوبة حراسة أمام عربات جيش مدرعة. وفي الصورة التي يبدو أنها كانت قد التقطت في منطقة نيونو (وسط مالي)، كان جندي القوات الخاصة الفرنسية يرتدي نظارات قتالية للوقاية، وقناعا صوفياً أسود مصمماً على شكل وجه هيكل عظمي.
وكان هناك أولئك الذين احتجوا على الصورة بوصفها تجسيداً لبلادة الإحساس والانفصال عن المواطنين الماليين المحليين. ورأى آخرون فيها تجسيدا حميدا لثقافة ألعاب الفيديو، نظراً إلى أن القناع الذي يرتديه الجندي يذكر بشخصية “الشبح” the Ghost، وهو إحدى شخصيات سلسلة ألعاب الفيديو “نداء الواجب”.
وفي الدفاع عن الجندي المقنع (ولعبة الفيديو)، قال ليوك بلانكيت، ناقد ألعاب الفيديو: “إن هذا ليس شخصاً واحداً يتصرف وحده، وإنما ذلك “موضة” مكرسة بين الجنود في شتى أنحاء العالم”. وشرح بقوله إن هذا الزي العسكري “مستلهم من استخدام الجنود للقناع في الحياة الواقعية، كما يرتديه جنود القوات الأميركية -الذين أخذوه أول الأمر كبديل شائع من العتاد العادي في مستهل حرب العراق”، حتى قبل طويل وقت من تطور لعبة الفيديو.
وإذن، هناك أصل الحكاية. إن صورة الحرب المالية المثيرة للجدل تلك لم تكن حالة جندي يحاكي بسخرية شخصية خيالية في لعبة فيديو، وإنما هي حالة لعبة فيديو تحاكي سلوك الحياة الواقعية للجنود الأميركيين في حرب شرق أوسطية.
وقد هاجم بلانكيت الناطقين العسكريين الفرنسيين على شجبهم مظهر الجندي الفرنسي باعتباره “غير مقبول” في وسط حرب دموية. وأضاف: “تظهر حقيقة انزعاجهم من هذا أن أولوياتهم في العلاقات العامة مشوشة تماماً”.
وكانت سلسة ألعاب الفيديو المسماة “نداء الواجب”، والتي طرحت في الأسواق في العام 2007 قد باعت أكثر من 100 مليون نسخة، وهي تجتذب ملايين اللاعبين على الشبكة العنكبوتية. وكان بي دبليو سينغر، مؤلف “مرسل للحرب: الثورة الروبوتية والصراع في القرن 21” قد نحت مصطلح militainment -أي الترفيه العسكري، في الإشارة إلى استخدامات الجيش لألعاب الفيديو.
وبالنسبة للقوات الأميركية على وجه الخصوص، تعد ألعاب الفيديو أداة مهمة للتجنيد والتدريب. وفي حالات أخرى، تقوم الجيوش نفسها بتطوير ألعاب فيديو قتالية. ووجدت دراسة لمعهد التكنولوجيا في مساتشوستس عن آثار لعبة فيديو معينة طورها البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) وسميت “الجيش الأميركي” أن “30 % من كل الأميركيين في أعمار من 16 إلى 24 عاماً أصبحت لديهم انطباعات أكثر إيجابية عن الجيش بفضل اللعبة. أما الأكثر مدعاة للدهشة، فهو أنه كان للعبة تأثير على عمليات التجنيد أكثر من الأشكال الأخرى كافة من إعلانات الجيش مجتمعة”. كما يسعى المطورون الخاصون أيضاً إلى الحصول على نصح الضباط العسكريين المخضرمين من أجل تحقيق مستوى واقعي من محاكاة الحرب. وكانت بعض سيناريوهات لعبة “نداء الواجب” تستند إلى “نصيحة الخبراء” من أوليفر نورث، المشهور بفضيحة ايران -كونترا، ومن أعضاء وحدة “الفقمات” من قوات البحرية.
وفي هذا الصدد، قدم الأمير البريطاني هاري شهادة مفصلة على نحو صادم، حتى لو أنها كانت عفوية، عن المخاطر المتضمنة. وبينما يصف استخدامه لأنظمة الأسلحة الموجودة على متن طائرته الهليوكبتر ضد طالبان، قال: “إنها متعة بالنسبة لي، لأنني واحد من أولئك الناس الذين يحبون لعلب البلاي ستيشن واكس بوكس. وهكذا أحب أن أفكر بأصابع إبهامي بأنني ربما أكون مفيداً جداً. ولا شك أن هذا الإحساس بـ”المتعة” هو أمر خارج السياق بالتأكيد. لكن هذا هو الثمن الذي يتم دفعه عندما يعمل “الترفيه العسكري” على محو الخط الفاصل بين الحرب والتسلية”.
وثمة مشكلة أخرى، هي أن ألعاب الفيديو القتالية عادة ما تستقى في الغالب من خبرات الحرب في بلدان مثل العراق وأفغانستان والصومال. ومن السهل رؤية كيف أن “اللاعب الذي يتقمص الشخصية”، والذي ينظر إلى العالم الخارجي من خلال سبطانة بندقية، لا يرجح أن يكون صديقاً للعالم الثالث. ومن المعروف أن ألعاب الفيديو كانت منخرطة لأكثر من مرة في الجدل حول أن نقاط التقاطع ثقافية. وبعد طرح ألعابهم “الحرب الحديثة 2” و”الحرب الحديثة 3″، كان على مصنعي سلسلة ألعاب الفيديو -نداء الواجب- التعامل مع احتجاجات إسلامية قوية، لأن لعبتهم تضمنت مشاهد لنصوص قرآنية موضوعة في إطارات في داخل حمام. ومع ذلك، وفيما يُحسب لهم، فإنهم اعتذروا وتطوعوا بشطب تلك المشاهد. وحديثا، تمت مقاطعة لعبة “نداء الواجب: آلهات الحصاد 2” في باكستان، لأنها أظهرت الأجهزة الأمنية في البلد متعاونة مع تنظيم القاعدة. وفي العام 2012، تعرض منتجو سلسلة ألعاب الفيديو لانتقادات بسبب لعبة “دعوة جديدة للواجب” التي تضمنت معركة استهلالية يقوم فيها اللاعب بإطلاق النار على ثوار أفارقة هاربين. وقد وصف منتجو اللعبة العنف المفرط (في العرض الخيالي المتبصر نوعا للحرب في مالي) بأنه لا يخدم أي شيء هدف سوى “قيمة الصدمة”.
مع كل الاحترام للمنتقدين حسني النية، فإن صناعة ألعاب الفيديو هي، قبل أي شيء آخر، مزود للإشباع الآني لفئة “الشباب الرقمي” حول العالم. ومثل النسخ المتفاعلة من كتب الإثارة (الاكشن) الكوميدية وروايات الجاسوسية، لا تنطوي ألعاب الفيديو على أي ادعاءات بالنزعة الفكرية. وعادة ما كانت “ثقافة البوب” الشعبية في الغالب مغامرة تجارية تزدهر على أساس قيمة الصدمة.
في عالم يشهد حروبا تخاض على نحو متزايد بانفصال مقلق، فإن التكنولوجيات المتحكم بها عن بعد والأنظمة الجوية المتطورة تستطيع أن تجعل الضحايا مرئيين بنفس وضوح الأهداف في ألعاب الفيديو. ويسمي البعض هذه الظاهرة باسم “متلازمة إجهاد الأفاتار” (الإلة المتجسد في المثيولوجيا الهندوسية). ويعرف كين روبنسون، وهو عسكري أميركي مطور لألعاب الفيديو، هذه المتلازمة انطلاقا من خبرة جندي: بقوله “عندما تفقد أحد الأفتارات، ما عليك سوى أن تعيد تشغيل اللعبة. وفي الحياة، فإنك تفقد رجلك، ثم يكون عليك أن تدفنه، ثم يتوجب عليك أن تتصل بزوجته”.
ويؤخذ التأثير المحتمل لألعاب الفيديو على سلوك الحياة الفعلية للجنود على محمل الجد، ليس من جانب العسكريين وحسب، وإنما أيضاً من جانب المجموعات الانسانية؛ مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر. حتى أن المنظمة التي تتخذ من جنيف مركزا لها أعربت عن استعدادها لإقامة حوار مع صناعة ألعاب الفيديو حول “مكان القوانين الإنسانية” في ألعاب الفيديو الحربية.
ربما يقودنا الحمق البشري (بمساعدة التكنولوجيات الحديثة) إلى عدم رؤية دماء الحرب. لكن من المهم أن لا يفقد الجمهور الكوني الضخم من ممارسي ألعاب الفيديو أبداً رؤية حقيقة أن عنف الحرب وعنفها المضاد، إنما يفضي -على نحو لا يماثل ألعاب الفيديو- إلى قتل الناس وتشويههم فعلاً.
(ميدل إيست أنلاين) ترجمة: عبد الرحمن الحسيني – الغد الاردنية.
*وزير اتصالات تونسي سابق، ومحلل إعلام دولي حالياً.
*نشرت هذه القراءة تحت عنوان:
From Iraq and Afghanistan to Mali: Wars, Masks and Video – games