لم يصدر عن السيد السيستاني، المشغول بدعوة شيعة العراق الى التطوع والجهاد ضد «داعش»، أي رد فعل على ما يجري في فلسطين من انتهاكات واستباحة، كما لم يصدر عن غريميه ابوبكر البغدادي وعزت الدوري ما يشير الى اهتمام الرجلين بالمسألة. وبالطبع لم يصدر أي كلام عن بشّار الأسد وحلفائه واعدائه في هذا الصدد، هذا من دون أن ننسى الصمت الخليجي والخرس الايراني والغيبوبة المصرية، والغياب التركي، والنفط الكردي الذي بدأ تصديره الى اسرائيل!
فالعرب والعجم مشغولون هذه الأيام بحرب إبادة ذاتية عنوانها العودة الى زمن ملوك الطوائف، وتنفيذ الرغبة الأمريكية بإعادة المنطقة الى العصر الحجري!
مفاد الأمر أنك يا «يوسف الفلسطيني»، تقاوم وحدك ووحدك تصمد ووحدك تحمل أعباء كرامة هذه الأمم المتهالكة التي هي صنيعة زمني الكاز والاستبداد وقد تداخلا وتصارعا بهدف وأد حلم العرب بالحرية والكرامة الإنسانية.
وحدك تحت الاحتلال ومشروع التطهير العرقي، شعبك مخطوف كله واسراه مضربون عن الطعام وعلى حافة الموت.
المخطوفون الاسرائيليون لا ذنب لهم سوى… انهم مستوطنون، اما الشعب الفلسطيني فذنبه أنه يعيش على أرضه التي يعتقد الإسرائيليون أنها هبة الهية لهم من زمن الأسطورة الموسوية، بينما السلطة الفلسطينية التي تُنتهك مناطقها ويُصلب شعبها، معجوقة بالتنسيق الأمني!
وحدك يا أخي في الصبر ووحدك في الصمود والمقاومة.
أما ما كان من أمر اخوتك العرب، فحكاية تحاكي الخرافة في غرائبيتها. حكومة المالكي ومن لفّ لفّها من الذين وقفوا بصلابة ضد احتمالات توجيه ضربة عسكرية امريكية الى الأسد الصغير وجيشه، وحملوا رايات المقاومة والممانعة يدعون أميركا الى ضرب العراق! في المقابل فإن المملكة السعودية وحلفاءها من أمراء ومشايخ الكاز والغاز، الذين تمحور رجاءهم الخائب على ضربة جوّية لسوريا، يقفون اليوم ضد التدخل الأمريكي! يا عيني على السياسة ولغتها في هذا الزمن المدعوش بالجنون والحماقة، الذي يقود فيه السفهاء شعوبهم الى المسلخ.
لم أفهم حتى الآن كيف يقاتل البعثيون الصدّاميون تحت رايات «داعش» وينشيء زعيمهم الدوري جيش الطريقة النقشبندية! يا لعارك المتجدّد يا ميشال عفلق، لم يكن ينقصك في اواخر أيامك الحزينة سوى أن تتدروش وتحوّل حلقاتك النقاشية المليئة بفجوات الصمت الى حلقة ذكر! اما تلامذتك في دمشق الشام فقد سبقوا اقرانهم العراقيين، رافعين راياتهم «العلمانية» تحت أعلام الميلشيات الشيعية الآتية من لبنان والعراق، ومختبئين خلف عباءات القبيسيات المتدثرات بفضيلة الصمت والخنوع!
لكن زمن البعث لم ينته، لأن هذا الحزب «القومي» نجح في أن يتأقلم مع الرياح. ففي زمن مضى إكتشف فضائل الإشتراكية لأن أساتذة دمشق كانوا في حاجة الى زعيم شعبي اشتراكي كأكرم الحوراني فغيروا إسم حزبهم بأن أضافوا اليه كلمة الإشتراكية، وفي زمن الناصرية الجارف ادّعوا حبا بالزعيم المصري ثم ما لبثوا أن أنقلبوا عليه، وفي الزمن السعودي تسعودوا، وفي الزمن الأمريكي تأمركوا، وصولا الى الزمن الإيراني، والى آخره… ولم يكن هدفهم سوى بناء سلطتهم الوحشية التي دمّرت المجتمع، تحت رايات «الرسالة الخالدة» بالتحالف مع القبائل والطوائف والعشائر.
ولكنهم اليوم في زمن داعشي شامل لذا كان لا بد من التدعوش، بعث العراق يقاتل في كنف «داعش»، والبعث السوري يتحول الى حامي الأقليات، ويأخذ اوامره من قاسم سليماني، ومن داعشييه. ولأنه لم يعد هناك من قيادة «فكرية» للبعث، على غرار قيادة عفلق، فمن غير المنتظر أن يقوم الحزب «الطليعي» بتغيير اسمه كما فعل في السابق. لكن الواقع يقول ان المسمى تغيّر، لذا نقترح عليهم عملية لغوية بسيطة يُطلق عليها النحاة العرب إسم الإدغام، فندغم البعث بالدعش، فيصير الإسم الحقيقي للمرحلة هو «البعش»، نعيش في زمن «حزب البعش» ونرى كيف يدعش هذا الحزب الأمة ويدعس وجودها ويفكك الأوطان في رقصة موت انتحارية لا تشبه سوى الزمن الهولاكي الذي دمّر بغداد، وزمن تيمورلنك الذي استباح الشام.
نمو «البعش» هو نتاج لعبة لا يتحكّم فيها أحد. قرر الأمريكيون الخروج من العراق بعد فشلهم المدوّي، ولم يتركوا خلفهم سوى مجتمع مدمّر ومجموعة من المتعاونين من جماعة حزب «الدعوة»، الذين ما لبثوا ان شكلوا تقاطعا امريكيا ايرانيا غرائبيا. وهم لا يملكون أي استراتيجية في سوريا أو في فلسطين. هناك ثابت واحد في سياستهم هو حماية إسرائيل. اما القوى الإقليمية التي هجمت لوراثة الفراغ الأمريكي فهي قوى لا تملك سوى رؤى ملتبسة هي مزيج من النوازع الدينية والطائفية والأحلام الأمبراطورية.
وحين يدّعي أحد المتصارعين أنه يقاوم امريكا فلا تصدقوه. كلهم يبحثون عن الرضا الأمريكي، بينما امريكا مطمئنة لأن مشروعها الأساسي تحقق، فقد نجحت في تخريب المنطقة من خلال تدمير العراق، ولا سياسة لها سوى احتواء الهزات الارتدادية الناجمة عن الزلزال الذي أحدثته كي لا تصل اليها.
القوى الإقليمية من تركيا الى ايران الى السعودية وصولا الى قطر، اسيرة بناها وايديولوجياتها الطائفية، لذا لا تستطيع ان تبلور مشروعا، أفقها الوحيد هو الحرب الأهلية والانتحار.
نحن في فوضى اللا معنى والانحلال والانحطاط، التي صارت الدواء الإقليمي ضد ثورات الشعوب العربية.
أما القوى «البعشية» العربية سواء أكانت دينية او طائفية او قبلية فهي مجرد ادوات للتدمير الذاتي عبر تدمير المختلف- الشبيه، وتحويل الأوطان الى رماد.
في مرحلة «البعش» على الفلسطينيات والفلسطينيين ان يعلموا أنهم وحدهم. وحدهم هناك في الأراضي المحتلة، ووحدهم هنا في المخيمات التي دُمرت او يجري التحضير لتدميرها.
وحدهم كانوا وسيبقون شهودا وشهداء على الحق الذي التجأ الى عذاباتهم في انتظار أن ينجلي ليل العرب الطويل.
القدس العربي