هناك من يرى أن الإمبريالية الأميركية الجديدة تبدو مختلفة في فحواها عن النسخة الأقدم عهداً، بمعنى أن الولايات المتحدة قوة اقتصادية متراجعة، وهي تشهد بالتالي تراجعاً لسلطتها ونفوذها السياسييْن.
وأعتقد أن الكلام عن التراجع الأميركي يجب أن يكون مرفَقاً ببعض التحفّظ، وتجدر الإشارة إلى أن الحرب العالمية الثانية هي الفترة التي تحوّلت فيها الولايات المتحدة الأميركية فعلاً إلى قوة عالمية، مع العلم بأنها كانت تُعتَبر إلى حدّ كبير، ولوقت طويل قبل الحرب، الاقتصاد الأكبر في العالم، لكنها كانت تُعتَبَر إلى حدّ ما قوة إقليمية. وكانت تسيطر على بلاد الغرب، وحاولت التوغّل بعض المرّات في منطقة المحيط الهادئ. إلا أن البريطانيين كانوا يشكّلون القوة العالمية.
ثمّ جاءت الحرب العالمية الثانية لتبدّل هذا كله. وأصبحت الولايات المتحدة القوة المسيطرة على العالم، وباتت نصف ثروة العالم بين أيديها. وكانت المجتمعات الصناعية الأخرى قد أضعفت أو دمَّرت. وكانت الولايات المتحدة الأميركية تتمتع بمكانة مدهشة في مجال الأمن، وتسيطر على دول الغرب، وعلى منطقتي المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، بفضل قوة عسكرية عملاقة.
ولا شك في أن هذا النفوذ تراجع، وقد تعافت أوروبا واليابان، ووُضع حدّ للاستعمار، وبحلول عام 1970، تضاءلت مكانة الولايات المتحدة، إن أردتم استعمال هذا الفعل، لتضم نحو 25 في المئة من الثروة العالمية – أي ما يناهز تقريباً ثروتها في عشرينيات القرن العشرين، وهي بقيت قوة مهيمنة عالمياً، ولكن ليس كما في عام 1950. وهي مستقرة نسبياً منذ عام 1970، على الرغم طبعاً من حصول تغييرات.
خلال العقد المنصرم، وللمرة الأولى منذ 500 عام، ومنذ الغزو الإسباني والبرتغالي، بدأت أميركا اللاتينية تتطرق لبعض مشاكلها، وبدأت تعمل على توحيد صفوفها. وكانت الدول منفصلة إلى حد كبير عن بعضها البعض، وكان كل منها موجهاً بصورة مستقلة نحو الغرب، أولاً باتجاه أوروبا، ومن ثم الولايات المتحدة. ويعتري توحيد الصفوف هذا أهمّيةً، ويعني أنه ليس من السهل انتقاء الدول، الواحدة تلو الأخرى، ويمكن لدول أميركا اللاتينية أن تتّحد على صعيد الدفاع ضد قوة خارجية. أما التطور الثاني الذي يعتري أهمية أكبر ويُعتبر أصعب بكثير، فيتمثّل في أنّ دول أميركا اللاتينية تبدأ على نحو منفرد بمواجهة مشاكلها الداخلية الهائلة. وبفضل مواردها، من المفترض أن تكون أميركا اللاتينية قارة غنية.
تمتلك أميركا اللاتينية ثروة طائلة، غير أنّها محصورة إلى حد كبير بين أيادي نخبة أوروبية الميول وبيضاء البشرة في أغلب الأحيان، وتتواجد إلى جانب فقر وبؤس واسعَيْ النطاق. وثمّة محاولات لبدء التصدّي لذلك، وهو أمر مهم – ويشكل نوعاً آخر من أنواع توحيد الصفوف – مع الإشارة إلى أنّ أميركا اللاتينية تفصل بطريقة أو بأخرى عن السيطرة الأميركية.
يكثر الكلام عن تحوّل عالمي في السلطة، حيث ستصبح الهند والصين القّوتين العظميين الجديدتين، وتكونان الأكثر ثراء، وهنا أيضاً، من الضروري النظر إلى الأمور بتحفّظ. على سبيل المثال، يقوم المراقبون بتحليلات بشأن الدَين الأميركي والواقع الذي يفيد بأن الصين تمتلك قسماً كبيراً جداً منه. والواقع أنه منذ سنوات قليلة، كانت اليابان تمتلك معظم الدَين الأميركي، واليوم تخطّتها الصين.
إلى ذلك، ينبغي التنبّه إلى الإطار الكلّي للكلام عن تراجع الولايات المتحدة مضلل. وقد علّمونا الكلام عن عالم يضم دولاً يُنظَر إليها على أنّها هيئات موحَّدة ومتّسقة. ومن درسَ نظريّة العلاقات الدولية، يلاحظ وجود ما يسمى بالمدرسة “الواقعية”، التي تلفت إلى وجود عالم فوضوي من الدول، وإلى أنّ هذه الدول تتعقّب “مصالحها القومية”. والأمر في قسم كبير منه يدخل في عداد الأساطير، حيث إن المصالح المشتركة قليلة، ومن بينها القدرة على البقاء. ولكن في معظم الأحيان، تختلف مصالح الناس إلى حدّ كبير ضمن نطاق دولة، فتكون مصالح الرئيس التنفيذي لشركة “جنرال إلكتريك” مختلفة عن مصالح البوّاب الذي ينظّف طابقه.
ويقوم جزء من النظام العقائدي السائد في الولايات المتحدة على الادّعاء بأننا نشكل جميعاً عائلة سعيدة واحدة، وأنه لا وجود لأي انقسامات طبقيّة، وأن الجميع يعملون معاً بطريقة متناغمة، ولكن الأمر خاطئ تماماً.
في القرن الثامن عشر، لفت “آدم سميث” إلى أن الناس الذين يملكون المجتمع يصنعون السياسة، وهم “التجار والمصنّعون”. واليوم، يكمن النفوذ في أيادي المؤسسات المالية والشركات المتعددة الجنسيات.
تُعنى هذه المؤسسات بالتطوّر الصيني، ولَنقل إن كنت الرئيس التنفيذي لشركة “وول مارت” أو “ديل” أو “هوليت باكارد”، فستسعد كثيراً إن كانت تحظى بيد عاملة رخيصة جداً في الصين، تعمل في ظل ظروف مشينة، وعدد قليل جداً من العقبات البيئية. وما دامت الصين تختبر ما يُدعى بالنمو الاقتصادي، فلا بأس في ذلك. والواقع أن النمو الاقتصادي الصيني يشكل أسطورة إلى حد ما، حيث إن الصين بمعظمها معمل تجميع، مع العلم بأن الصين من كبار المصدّرين، ولكن في حين أن العجز التجاري الأميركي مع الصين سجّل ارتفاعاً، كان العجز التجاري مع اليابان، وتايوان، وكوريا الجنوبية، على تراجع. أما السبب، فهو أن نظام الإنتاج الإقليمي يتطوّر.
وتعمل الدول الأكثر تقدماً في المنطقة – أي اليابان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وتايوان – على إرسال التكنولوجيا، وقطع الغيار والعناصر المصنعة إلى الصين، التي تستخدم قواها العاملة الرخيصة التكلفة لتجميع المنتجات وإرسالها إلى خارج البلاد.
وتقوم المؤسسات الأميركية بالأمر عينه، إذ تُرسل قطع الغيار والعناصر المصنعة إلى الصين، حيث يعمل أشخاص على جمعها وتصديرها كمنتجات نهائية. وتُدعى هذه صادرات صينية، إلا أنها صادرات إقليمية في حالات كثيرة، وتقوم في حالات أخرى على إقدام الولايات المتحدة على تصدير المنتجات إلى نفسها.
ما إن ننجح في الخروج من إطار الدول القومية القائمة على هيئات موحدة لا انقسامات داخلية في ما بينها، سنرى تحوّلاً عالمياً في النفوذ، ولكنه سيكون انتقالاً من القوى العاملة العالمية إلى مالكي العالم، ويشمل مؤسسات مالية عالمية ذات رأس مال عبر وطني.
الاتحاد الاماراتيه.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»