إلى أين تتجه حرب الإبادة الإسرائيلية وهي أطول الحروب في تاريخ المنطقة؟ هل يتم التوافق على صفقة تقضي بوقفها، حيث تتركز الجهود الأميركية المصرية القطرية المدعومة عربياً ودولياً لتمريرها حتى لو كان النجاح جزئياً ولمدى زمني محدود؟
في هذا السياق قدمت إدارة بايدن أكثر من تعديل بهدف استدراج نتنياهو الذي رفض كل المشاريع او التف حولها. إن أي قارئ للمشاريع وتعديلاتها سيجد أنها منحازة للشروط الإسرائيلية، وفي أحسن الأحوال الانتقال من فكرة تحقيق الشروط مرة واحدة الى تحقيقها تدريجياً وعلى مراحل. ما يهم إدارة بايدن هو تفادي حرب إقليمية ستكون على الأغلب شريكاً فيها، وعلى الأقل لا تريدها في الفترة الحساسة التي تسبق انتخابات الرئاسة الأميركية. ذلك ان وقف الحرب سيسجل نقاطاً مهمة لصالح حزب بايدن والمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس من خلال كسب الكتلة الشبابية اليسارية في الحزب الديمقراطي المناوئة للحرب، وسيضعف منافسها ترامب وحليفه نتنياهو.
الاتفاق وتعديلاته المُجحفة يعبّر عن ميزان القوى المختل بمستوى فادح بين أقطاب الحرب لمصلحة إسرائيل المدعومة فوق المعتاد، والذي لن يتغير للأحسن بالرد الإيراني ورد حزب الله والساحات الأخرى الذي يبدو انه لا يختلف عن سابقه نوعاً ما، رغم الخسائر المتوقعة التي ستلحق بإسرائيل بحسب تقديرات المراقبين. فإيران صاحبة نظرية الصبر الاستراتيجي ليس من مصلحتها الخاصة الدخول في معركة فاصلة مع إسرائيل وحليفتها أميركا ودول غربية أخرى، لأنها معنية بمكانتها وحصصها الإقليمية، وليس من بين مصالحها، أي مصلحة حقيقية للشعوب العربية، وليس من بين مصالحها فرض حل سياسي يلبي الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وهي التي حققت توسعات إقليمية مهمة من غير حرب مباشرة. واي مفاضلة بين حرب تتعرض فيها ايران لتدمير هائل وحرب بالوكالة ستختار إيران الصنف الثاني من الحروب، وقد اختارته فعلاً بعد 7 أكتوبر حين تركت الشعب الفلسطيني يواجه مصيره المأساوي بنفسه ما عدا إسناد تكتيكي من حزب الله.
كثير من قراءات ميزان القوى تُقرأ أحادية الجانب فقط، ترى الازمات الإسرائيلية ومن المهم رؤيتها والتوقف عند تأثيراتها وتوظيفها في مصلحة الشعب الفلسطيني. أول عناصر الأزمة الإسرائيلية هي، اضطرار إسرائيل لتغيير عقيدتها العسكرية من حرب خاطفة ورادعة الى حرب إبادة وحشية طويلة، تؤدي الى عزلة دولية، والى رأي عام عالمي مناهض للدولة التي ترتكب جرائم حرب، ومن عناصر الأزمة أيضا يوجد اكثر من 130 ألف نازح إسرائيلي من غلاف غزة والشمال، وتراجع اقتصادي بعجز 8% – 9% ناجم عن الخسائر الكبيرة، وهجرة ما بين 700 الف – مليون شخص إلى خارج إسرائيل، وخسائر متزايدة في صفوف جيش الاحتلال داخل قطاع غزة وعلى جبهة حزب الله، وجنود احتياط يعانون من ارهاق بسبب استدعائهم للخدمة مرتين فأكثر خلافاً للحروب السابقة، وتعمّق الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي.
السؤال، هل استمرار هذا الوضع وتفاقمه اكثر فأكثر من خلال حرب استنزاف تمارسها جبهات المقاومة بقيادة ايران، سيقود الى تراجع إسرائيل عن شروطها، والعودة الى ما قبل 7 أكتوبر، والقبول بالحل السياسي الدولي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟ البعض يقول إن حرب الاستنزاف ستقود الى انهيار إسرائيل وهزيمتها.
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بمعزل عن رؤية العامل الذاتي الفلسطيني.
بعد معرفة سقف الموقف الإيراني، يضاف الى ذلك الموقف العربي الرسمي المناهض للحرب ولمحور المقاومة والممانعة، والعاجز في الوقت ذاته عن تأمين الحماية للشعب الفلسطيني الذي يتعرض الى الإبادة. كما يلاحَظ تراجع الحراكات الشعبية العربية والدولية المدافعة عن الشعب الفلسطيني. أو كما يقول الكاتب اللبناني حازم صاغية في صحيفة الشرق الأوسط «الدعم الآتي من الخارج يتقدم بأبطأ كثيراً مما يتقدم التوحش الإسرائيلي، وأن الفجوة كبيرة بين الدعم والتضامن الخارجي من جهة والاستعدادات الداخلية الفلسطينية والدمار الذي تصنعه آلة الحرب». العجز الدولي والعربي عن تأمين الحماية لشعب ما يزال يتعرض لإبادة من خلال متوالية التدمير والتهجير التي لم تتوقف إلا لتبدأ من جديد. فقد تعرضت مدن ومخيمات وأحياء لتدمير جزئي وتهجير وأُعيد التدمير ليصبح كلياً أو أقل كثيراً، وتكرر التهجير 4 او 5 مرات والبعض هجر 9 مرات. بنية المجتمع الغزي تتعرض للتفكيك نتيجة لتدمير البنية التحتية وتدمير المؤسسات التي تنظم حياة المجتمع، ما أدى إلى انهيار النظام والقانون، وانهيار الاقتصاد وفقدان العمل. ولم تسلم الأُسر والعائلات من التفكك. وبدأ المجتمع يعاني من ظهور عصابات النهب والسرقة وإقامة القانون باليد وارتكاب العديد من الجرائم.
تلجأ الشعوب في حربها ضد المستعمرين الى حرب استنزاف طويلة الأمد، من خلال إشراك الشعب في حرب الاستنزاف وبالاستناد الى دعم الحلفاء والأصدقاء، وهذا يختلف عن حالة الحرب في قطاع غزة، حرب المواجهة بين طرفين غير متكافئين بمستوى خيالي، وقد تعرض الشعب لأبشع عملية انتقام بلغت حد الإبادة من جهة، وتعرض الشعب الى التحييد وعدم الإشراك وتغليب العمل العسكري على المشاركة الشعبية من قبل قيادة المقاومة، وتعرض إلى تجاهل محنته التي قل نظيرها أثناء المعركة وحتى اليوم، ويتم تجاهل حقيقة أن المقاومة تستطيع إنجاز مكاسب بالاستناد فقط الى الدعم والمشاركة الشعبية ومن خلال بناء مقوّمات صمود. لقد فاق رهان حركة حماس على وجود أسرى ومحتجزين إسرائيليين بحوزتها والتفاوض عليهم، رهانها على جهوزية شعبها للمعركة، ولاتزال ورقة الأسرى الإسرائيليين تحتل المركز الأهم في مواجهة حرب الإبادة.
كيف تخوض المقاومة حرب استنزاف طويلة ليس فقط بمعزل عن الشعب، بل وفي الوقت الذي يتعرض فيه الشعب الى إبادة وتهجير وعمليات انتقام وحشية رداً على اعمال المقاومة، وبدلاً من العمل على تجاوز الاختلال وشرح أسبابه والتحاور مع المواطنين المكتوين بناره، بدلاً من التفكير بوقف الحرب أولاً، والتفكير بنظام تعليمي بديل، ونظام صحي يلبي الحد الأدنى، وبنية جديدة تلبي حاجة الناس للطعام وقدرتهم على البقاء، وبدلاً من الاعتراف بالأخطاء والعمل على تجاوزها، بدلاً من كل ذلك يستمر التجاهل ليس من قبل حركة حماس والمنظمات الأخرى، بل ومن قبل النخب السياسية والثقافية والأكاديمية الداعمة لها التي ما زالت تبرّر الأخطاء وتمارس أشكالاً من التضليل.
ما لم يتم الاعتراف بالواقع وبالاختلالات والأخطاء، لا نستطيع الإفادة من عناصر الضعف الإسرائيلية التي ورد ذكرها في بداية المقال، ولا نستطيع جني ثمار التعاطف والدعم العالميين في المدى المباشر والمتوسط. وما لم يتم طرح برنامج يحظى بدعم أكثرية الشعب وحركته السياسية، وبدعم عربي ودولي، برنامج في مركزه الخلاص من الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره، وينسجم مع القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، برنامج تحمله بنية تنظيمية وسياسية ديمقراطية منفتحة على كل طبقات المجتمع وفئاته الحية، بعيداً عن نظام «الكوتا» والولاء والمحسوبية.
بقي القول إن المقاومة تستطيع استنزاف المحتلين وإيقاع الخسائر بهم، ولكن يستطيع المحتلون مواصلة حرب الإبادة والاقتراب من خطر التهجير، وفي المحصلة لا تكون النتيجة لمصلحة فلسطين وشعبها، في هذه الحرب ثمة طريق واحد لإنقاذ فلسطين هو طريق وقف الحرب.
عن صحيفة الايام