في الأسابيع الأخيرة، قتلت جماعة “الدولة الإسلامية” الإرهابية، التي كانت معروفة سابقاً باسم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام “داعش”، ما لا يقل عن 500 عضو من الأقلية ذات العقيدة الأيزيدية في العراق، في داخل وحول مدينة سنجار، وأخذت المئات من نسائهم سبايا. وتم دفن بعض الضحايا منهم وهم أحياء. وكانت جريمتهم الوحيدة: أنهم ليسوا مسلمين.
بالإضافة إلى هؤلاء الضحايا، خرجت عشرات الآلاف من أتباع هذه الطائفة من سنجار، وهربت إلى قمة جبل، بعيدة بلا طعام ولا ماء ولا مأوى، حيث مات العديد منهم بسبب نقص سبل الإعاشة. ولولا أن الولايات المتحدة قامت بإسقاط المؤن عليهم من الجو، ولو أنها لم تقم بقصف مقاتلي “الدولة الإسلامية” من السماء، فإن عدد القتلى من الأيزيديين كان سيتكاثر مثل الفطر ليصل مستوى يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.
وحتى مع ذلك، أصبحت نوايا الدولة الإسلامية حول الإبادة الجماعية واضحة الآن. ينبغي أن يتوقع المسيحيون، واليهود، والدروز، والعلويون، والمسلمون الشيعة، والمسلمون السنة من التيار السائد، تلقي نفس هذه المعاملة بالضبط في حال تعرضوا لغزو هذه المجموعة.
إذا كانت الحرب تعلمنا عن الجغرافيا، فإن الإبادة الجماعية تعلمنا عن الأقليات العرقية التي ربما تظل غامضة بغير ذلك. ولم أكن قد سمعت أبداً بالأيزيديين أنا نفسي حتى ذهبت إلى العراق في العام 2006 وأجريت مقابلة مع رئيس جامعة دهوك في إقليم كردستان المتمتع بالحكم الذاتي. وقد أخبرني بأن أذهب إلى “لالش”، التي تعتبر بمثابة “مكة” الإيزيدية، حيث يعتقد عبدة النار القدماء في المنطقة أن العالم ولد هناك.
لا بد أن ذلك المكان ينث السخونة الحارقة خلال فصل الصيف، مثل أي مكان آخر في العراق، لكنني ذهبت بالسيارة إلى هناك عبر أرض فارغة كانت تغطيها الثلوج خلال فصل الشتاء. لم تبدُ “لالش” أنها تخلق الانطباع بأنها مركز الكون، وإنما كان مظهرها يصنع الشعور بأنها تقع في أقصى الأرض. كانت المنطقة غير مأهولة بطريقة تشبه المناطق النائية في منطقة وايومنغ الأميركية، وهو ما يقدم للأيزيديين قدراً من الحماية. فلو كانت “مكتهم” هذه تقع في وسط بغداد -أو الأسوأ، “فلوجتهم”- لكانوا قد أصبحوا الآن تحت خطر أكثر جدية مما هو حالهم أصلاً.
ظهرتُ هناك دون إعلام مسبق، ولكن بابا الشيخ، حارس “لالش” ورئيس العقيدة الأيزيدية، أخذني في جولة تعريفية في المكان. وهناك، يقف في مركز الموقع نصب حجري مخروطي يجسد السماء وطبقات الأرض السبع المفترضة. ويضطرم هناك في الداخل لهب أبدي يمثل قوة الحياة في الكون.
قال بابا الشيخ: “إن النار هي من عند الله. ومن دون نار، لا يمكن لأحد أن يعيش. وعندما يُقسم المسلمون الأكراد اليوم، فإنهم ما يزالون يقولون: أقسم بهذه النار”. ثم أرسلني إلى داخل معبد قديم مظلم ومخيف مع دليل كان قد أشعل ناراً في إناء مربع فيه زيت.
بدأت العقيدة الأيزيدية التي تمارََس اليوم في القرن 12 الميلادي، ولكن جذورها أقدم من ذلك بكثير، وتعود إلى الزرادشتية وأديان منطقة ما بين النهرين القديمة في حقبة ما قبل الإسلام. ومثل كل الديانات تقريباً، استوعبت الأيزيدية أجزاء من الديانات المجاورة، فأصبحت تضم عناصر من الإسلام الصوفي، واليهودية، والمسيحية، والغنوصية.
مثلما تبدو كل الأديان من وجهة نظر الخارجيين، تبدو هذه العقيدة غريبة. وعلى سبيل المثال، يعتبر نبات الخسّ، من دون كل الأشياء، محرماً في هذه العقيدة. ويعبد الأيزيديون ملاكاً طاووساً يسمى مالك الطاووس، الذي رفض منذ وقت طويل الخضوع لله وانحنى لآدم بدلاً من ذلك، لكنه افتدى نفسه في وقت لاحق. وينظر المسلمون الأصوليون إلى الأيزيديين على أنهم عبدة للشيطان، ولكن المسلمين الأكراد يظلون أقل عرضة للتفكير بذلك من العرب، فيما يعود في جزء كبير منه إلى حقيقة أن الدين الأيزيدي قائم على الدين الأصلي للأكراد قبل أن يتحول معظمهم إلى اعتناق الإسلام. ويعرف الأكراد جيداً أنهم لم يكونوا عبدة للشيطان في وقت أبكر من تاريخهم.
في واقع الأمر، ما يزال الدين الأيزيدي جزءاً لا يتجزأ من الهوية الكردية، حتى بعد مرور كل هذه القرون. وعند تصميم علمهم، تجاوز أكراد العراق رمز الهلال كثير الشيوع في أعلام الدول الإسلامية، واختاروا بدلاً منه صورة للنار –رسم شمس مشعة مشتعلة- من الديانة الأيزيدية. وقال لي واحد من أصدقائي الأكراد: “إنهم أناس مسالمون، لكنهم قاوموا الإسلام طوال العديد من القرون. عليك أن تعجب بهم”.
مثل بقية الأقليات الشرق أوسطية، كان الأيزديون جيدين في مقاومة الغزاة والظالمين. وكان يمكن أن يتعرضوا للطمس والإلغاء منذ وقت طويل بغير ذلك. وهم ليسوا أنفسهم غزاة، بل انهم ليسوا حتى دعاة. إنك حر في اكتشاف أن الدين الأيزيدي مقنع مثلاً، لكنك لا تستطيع التحول إليه. إن مجتمعه مغلق الآن. وكل ما يريد الأيزيديون فعله الآن هو مواصلة سبلهم الخاصة وأن يعيشوا حياتهم من دون تدخل من أحد. وهكذا، يكون الأيزيديون من بين أسهل الناس الذين تستطيع إقامة السلام معهم في العالم كله، لكن أحداً على وجه الأرض لا يمكن أن يصنع سلاماً مع “الدولة الإسلامية في العراق وسورية”.
سألت بابا الشيخ عما إذا كانوا يعتبرون أنفسهم أكراداً أولاً أو أيزيديين أولاً، فأجاب بإجابة شرق أوسطية نمطية. قال: “عندما تكون في الأمر سياسة، فنحن أكراد. وعندما لا تكون هناك السياسة، فنحن أيزيديون”.
وهناك الآن السياسة، بعبارة ملطفة، في شمال العراق، سواء في داخل منطقة الحكم الذاتي الكردية أو خارجها. ومع وجود “الدولة الإسلامية” في هذا الوضع المعروف من الهياج، فإن الأيزيديين في خطر محدق، وكذلك غالبية الأكراد الذين يعتبرون أنفسهم مسلمين. وقد يقول أكراد العراق هم أيضاً بشكل مماثل: “نحن جميعاً أيزيديون الآن”، لكن الحقيقة هي أنهم كانوا دائماً كذلك.
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
مايكل جيه توتِن – (ويكلي ستاندرد)