تقدم «الداعشيون» في العراق. وتقدم «الحوثيون» في اليمن. يهدد هؤلاء صنعاء ويستعدون للزحف عليها. ويهدد أولئك بغداد والنجف وكربلاء. الحرب مفتوحة في البلدين وتنذر بالتفتيت والتقسيم. أو على الأقل بانهيار الدولة هنا وهناك، بعد موت السياسة وفشل النخب الحاكمة. البلدان بعيد أحدهما عن الآخر. لا حدود مشتركة بينهما. لكن خطوط النار والمواجهة تجعلهما أكثر ارتباطاً. تجعل مصيرهما واحداً. لأنهما باتا جبهتين في حرب واحدة واسعة متعددة الميادين المشتعلة. من سورية ولبنان إلى العراق والبحرين. أعاقت «الدولة الإسلامية» العملية السياسية بعد الانتخابات النيابية الأخيرة. ومثلها فعل «أنصار الله» الزاحفون من صعدة نحو العاصمة مهددين المرحلة الانتقالية والتوجه نحو وضع دستور جديد والاعداد للانتخابات البرلمانية والرئاسية العام المقبل. والسياسة معلقة في دمشق وبيروت.
للوهلة الأولى يبدو الربط بين جبهتي البلدين ضعيفاً. لكن قراءة في أحداثهما تعزز بل تؤكد مثل هذا الربط. ليس سراً أن الحركة الحوثية التي خاضت ست حروب مع الحكم في صنعاء على مر السنوات العشر الأخيرة، نالت دعماً واسعاً من إيران، سياسة وتسليحاً وتدريباً. وكان آخر ما كشفته مصادر حكومية يمنية اعتقال مجموعة لبنانية تقول إن أفرادها «عسكريون» بعث بهم «حزب الله» اللبناني لتدريب الحوثيين على القتال وأسلوب إدارة المعارك.
وتلقت رسالة من قيادة الحزب تطالب بالافراج عنهم بذريعة أن مهمتهم تقتصر فقط على تدريب أهل الشمال على إدارة مدنية لمناطقهم. ويتهم خصوم الرئيس السابق علي عبدالله صالح حزبه المؤتمر الشعبي العام بأنه سعى لدى طهران الى التدخل لدى الحركة الشمالية من أجل التنسيق سياسياً وعسكرياً للحؤول دون تقدم مؤتمر الحوار إلى خواتيمه في كانون الثاني الماضي. لكن القيادة الإيرانية أحالت ضيوفها اليمنيين على قيادة الحزب في بيروت للتنسيق والتقرير! كأنما أرادت أن ترفع عنها المسؤولية لتلقيها على طرف عربي… لبناني يتعامل في شأن عربي آخر!
هذان الحدثان لا يضيفان الكثير من أجل تأكيد دور إيران في ما جرى ويجري في شمال اليمن. الحوثيون الذين شاركوا في مؤتمر الحوار حتى إقرار الوثيقتين الأساسيتين: وثيقة حل قضية الجنوب، ووثيقة تحديد الأقاليم الستة، تحفظوا على الأخيرة. وتعتقد دوائر في صنعاء بأن مرد هذا التحفظ واضح لا لبس فيه. ما يريده الحوثيون هو تمديد «إقليمهم» شرقاً نحو الجوف ليشمل مناطق نفطية تعزز استقلالهم المادي. وغرباً حتى ساحل البحر الأحمر ليكون مفتوحاً بحرية على العالم الخارجي. وتنص مقررات المؤتمر على جمع السلاح وحل كل الميليشيات. لكن الحوثيين راكموا مزيداً من السلاح فيما كان الجيش يشن حملته الواسعة المستمرة ضد مواقع تنظيم «القاعدة».
ولم يكن في وارد فتح جبهة جديدة شمال العاصمة. «الصبر الصبر» كان عنوان السياسة الحكومية في مواجهة «الدولة داخل الدولة». لكن الواقع أنه ليس بمقدور المؤسسة العسكرية أن تخوض حرباً ثانية بالتوازي مع الحملة على «الجهاديين» في شبوة وأبين والبيضاء. لكن «أنصار الله» الذين كانوا يتريثون في التقدم نحو العاصمة، في ظل أجواء إقليمية ودولية غير مواتية تحركوا فجأة ودخلوا مدينة عمران. وهم لن يترددوا قريباً في الزحف نحو صنعاء.
منذ اندلاع الحراك في اليمن لإسقاط النظام في عام 2011 لم يتردد الحوثيون في مد الساحات والميادين بالزخم الشعبي. كانت لهم ثارات مع الرئيس علي عبدالله صالح على رغم أنه لم يبخل عليهم بالدعم المطلوب عندما شعر وشعروا بتوسع الحركة السلفية في شمال البلاد. وسرعان ما تدخلت قوى كثيرة لمساندتهم بينها «جماهيرية القذافي» وإيران بالطبع.
ولم تخف طهران غضبها على الرياض وانتقاداتها لها عندما كانت القوات السعودية تتدخل عسكرياً لمنع اختراق الحوثيين حدودها. كما أن هؤلاء الذين لم يتأخروا عن المشاركة في مؤتمر الحوار الذي رعته الأمم المتحدة لم يتوقفوا عن إعلان رفضهم مبادرة مجلس التعاون الخليجي متهمين المملكة والولايات المتحدة بالسعي إلى إجهاض الحراك ومنع اسقاط النظام السابق. وتعاونوا ولا يزالون مع قوى جنوبية تنادي علناً برفضها مقررات المؤتمر وتصر على استقلال الجنوب، وعلى رأسها مناصرو الرئيس السابق لدولة الجنوب علي سالم البيض المقيم وقناته الفضائية في «حمى بيروت»!
شارك الحوثيون في العملية السياسية، في مؤتمر الحوار، لكنهم لم يتوقفوا عن توسيع رقعة المناطق التي يسيطرون عليها. وهم في حملتهم الأخيرة على عمران لاقوا المساندة المطلوبة من قبائل وعشائر توالي حزب المؤتمر الشعبي بقيادة الرئيس السابق، في مواجهة السلفيين وآل الأحمر و «تجمع الإصلاح». ولا يكمن الخطر في اقترابهم من صنعاء. هم موجودون فيها عملياً عبر أتباع مذهبهم ومناصريهم وحلفائهم.
لذلك كان الجيش يتردد في دخول المواجهة بينهم وبين خصومهم عندما كان القتال بعيداً من أبواب العاصمة. لكن اليوم لم يعد في امكان الحكم أن يتجاهل تقدمهم وتهديدهم بإسقاط العملية السياسية برمتها وصيغة الحكم التي نتجت منها، وتقويض كل ما توصل إليه مؤتمر الحوار على مدى نحو عشرة أشهر. ويعني ذلك ببساطة فتح باب الحرب الأهلية على مصراعيها، وسقوط البلاد في فوضى لن تكون دول مجلس التعاون الخليجي بمنأى عن تداعياتها. وهو ما دفع بهذه الدول منذ اندلاع «الحراك» في اليمن إلى وضع ثقلها من أجل التغيير الهادئ لنظام الحكم وإجراء الإصلاحات الضرورية للحفاظ على وحدة اليمن. وساندها مجلس الأمن الذي تبنى «المبادرة الخليجية».
لا يعدم الحوثيون وسيلة لسوق الذرائع تبريراً لتحركهم ضد الحكم في صنعاء. مثلهم مثل أهل «الحراك الجنوبي». فكلا المكونين عانى التهميش والإهمال طوال سنوات. فلا مشاركة حقيقية في مواقع السلطة ولا فوائد من مشاريع التنمية، ولا نصيب في مداخيل الدولة. فضلاً عن التمييز الطائفي والجهوي والقبلي. أي أن حالهم تشبه حال أهل السنة في العراق الذين ثاروا على الحكومة المركزية بسبب العناوين نفسها.
ولم يعد ممكناً إغراء المتصارعين هنا وهناك بحوار سياسي بناء مشفوعاً بضمانات بإشراك الجميع في مواقع السلطة ومفاصلها وحصولهم على نصيب من الثروة الوطنية. باتت قضية «الحوثيين» و «الداعشيين» جزءاً من الحرب الإقليمية التي تخوضها إيران مع خصومها القريبين والبعيدين. ويطرح هؤلاء جملة من الأسئلة عن توقيت التحرك الحوثي: وقف «أنصار الله» طويلاً على أبواب عمران ملتزمين وقف النار فماذا تغير ليعاودوا حربهم ويستدرجوا الجيش إلى المواجهة؟ وأيضاً: إذا كانت حكومة نوري المالكي والدوائر الإيرانية تتهم المملكة وبعض دول الخليج وأميركا بالوقوف وراء «الدولة الإسلامية» في العراق يصح عندها اتهام الجمهورية الإسلامية بتحريك الساحة اليمنية.
الحوثيون ليسوا مكوناً طارئاً في اليمن. يمثلون مذهباً من مذاهبه ومكوناً قبلياً من عشائره. وكان لهم تاريخ سياسي طويل. ومثلهم أهل السنة في العراق الذين تتصدر واجهتهم «داعش» فصيلاً من عشرات الفصائل والقوى. ولعل خطورة الأوضاع في هذين البلدين، كما هي الحال في سورية ولبنان، أن الصراع الداخلي تحول جزءاً من صراع إقليم ودولي أوسع. لذلك لم يعد اللاعبون المحليون يتحلون بالقدرة على اللقاء وإدارة خلافاتهم أو تسويتها. مفتاح الحلول بيد الخارج.
ولا شيء يوحي حتى الآن بأن إيران وخصومها الكثر مقبلون على صفقة كبرى. وحتى تنضج الظروف لمثل هذه الصفقة لا بد من تضحيات هنا وهناك… وإن كان الانتظار سلاحاً فتاكاً في تسعير الحروب الأهلية والمذهبية والجهوية، وفي إعادة رسم خرائط جديدة بالدم في اليمن والعراق وسورية.
وسيبقى «الحوثيون» على أبواب صنعاء ما دام «الداعشيون» خارج بغداد. ولا يملك اليمنيون سوى مراقبة ما سيحدث في بلاد الشام، من حلب والرقة إلى الموصل وشقيقاتها، ومن بيروت إلى كردستان. نجح الكبار من أهل الإقليم في الربط بين كل أزماته… فيما فلسطين على طريق الضياع النهائي.
القدس دوت كوم