الحياة اللندنية -إعداد أحمد مغربي /في صفحتها على «فايسبوك»، كتبت مدرّسة لمادة الجغرافيا في إحدى المدارس الثانوية في لبنان، أنّها باتت تجد صعوبة كبيرة في تدريس تلك المادة في الآونة الأخيرة. وأرجعت المدرّسة تلك الصعوبة إلى إصرار ظهر بين صفوف التلامذة أخيراً، على أن تتوافق دروسهم مع ما يسمعونه في بيوتهم وأحيائهم عن رأي الشريعة في تلك الدروس. ونافلاً القول أنّ كرويّة الأرض ودورانها حول الموقع الثابت للشمس وما إليها، كانا من ضمن المسائل التي أوردتها تلك المدرّسة.
وبقدر ما تشير تلك الكلمات إلى ظاهرة صعود التطرّف الديني الإسلاموي في صفوف الشباب العربي، فإنّها تشير إلى مسألة أخرى فائقة الأهمية تتمثّل في دور النظام التعليمي في نشر التفكير العلمي، خصوصاً في الدول العربيّة.
إذ يلعب التأهيل المدرسي والجامعي دوراً في بنية التفكير العلمي وقابليته للانتشار بين الناس، لكن ذلك التأثير يبدو واهناً في معظم البلدان العربيّة. كما يعاني العرب مشكلة في عملية الإنتاج العلمي، بالنظر لضآلتها الهائلة.
ويفترض بالنظام التعليمي أن يساعد على الفهم والتفكير، أكثر من التلقّي السلبي. ولا يجدر أن تصوّر الدراسة في الجامعات ذات الاختصاصات العلميّة باعتبارها صعبة ومستحيلة. وكـــذلــك يفــتــرض بأساتذة المدارس أن يحضّوا على التعرّف إلى طُرُق التفكير العلمي وتحبيب الطلبة به، وعلى التفتيش عن طرق حديثة في التعلّم.
الدولة والتفكير في العلم
تملك الدولة دوراً مهماً في دعم التفكير العلمي ونشره، خصوصاً العناية بتبسيط النصوص العلميّة وانتشارها. إذ يفترض أن تنظر مؤسّسات الدولة إلى عملية تبسيط النص العلمي باعتبارها جزءاً من الثقافة العامة، ما يقتضي دعمها في صورة رسميّة أيضاً. ولأن ذلك التبسيط يعتبر طريقة من طرق نشر التفكير العلمي، كما يضحي أيضاً جزءاً من النقاش الاجتماعي، وشكلاً من أشكال ديموقراطية الثقافة والمعرفة.
ويعطي تبسيط النص العلمي للعامة الحق في معرفة موقعها في العلوم والمجتمع، لأن الشعب هو مصدر تمويل تلك البحوث، كما يظهر في تجارب الدول المتطورة.
ويؤثر تبسيط النص العلمي في السياسيّين في صورة مباشرة، لأن أكثريتهم تتحدث عن «حقائق» العلوم وتقدّمها، من دون الإحاطة بها في صورة سليمة.
ويساعد فهم التفكير العلمي عبر تبسيط النصوص العلميّة ونشرها، على إدراك أهمية العلوم في المجتمعات الحديثة. واستطراداً، ربما يؤثّر ذلك أيضاً في الموارد التي توجّهها الدول والمؤسّسات لدعم البحوث.
وفي ذلك الصدد، هناك دور مهم للإعلام في شرح العلوم وتبسيطها، بل حتى تشجيع الاستثمار في العلوم، كما يساهم في صنع صورة إيجابيّة تساهم في تقدّم العلوم وبحوثها. واستطراداً، تساعد تلك الصورة أيضاً على تدفق أموال من الدول والمؤسّسات إلى البحوث التي يصعب إنجازها غالباً من دون موارد مادية وبشرية مناسبة.
ويعتبر التمويل من أبرز المشاكل التي تعاني منها العلوم في العالم العربي. وفي معظم دول العرب، تتدنى ميزانية البحوث فتصل إلى كسر عشري في المئة (أو أحياناً أقل بكثير) من الموازنة العامة. ويردّد كثيرون أنّ تلك البحوث لا تجدي. والأرجح أنه رأي ربما يثير الريبة في وجود إرادة سياسيّة تقف وراء تجهيل الناس أهمية العلوم ودورها في حياتهم اليوميّة.
يمرّ التواصل المعرفي عبر نشر التفكير العلمي وتبسيط نصوص العلوم، كما تساهم النقاشات بين الجمهور العام والمختصّين في إغناء النقاش عن المسائل السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والتربويّة والثقافيّة وغيرها.
إشكاليّة العلوم والنقد
يوصل ذلك الى القول أيضاً بأنّ على الباحث أن يتحكّم بخطابه، مع إتقان فنّ توصيله إلى الجمهور الواسع. وفي الدول الصناعيّة المتقدّمة، يستخدم كثير من المختبرات الكبرى شركات مختصة في الإعلام والعلاقات العامة، لتحقيق ذلك الهدف.
ويمتد أثر نشر التفكير العلمي إلى نطاق أبعد من الجمهور العام، ليصل إلى النُخب العلمية ومؤسّساتها ومختبراتها، خصوصاً في الأزمنة المعاصرة التي عادت فيها الاختصاصات إلى التداخل وتالياً التواصل مع بعضها بعضاً.
كذلك، يساهم نشر النصوص العلميّة المبسّطة في صنع لغة مشتركة تعمل على تقريب المجالات العلميّة المتباعدة، بمعنى بناء جسور بين العلوم الإنسانيّة من جهة، والمعلوماتية أو الكيمياء من الجهة الثانية.
وفي ذلك المعنى، يمكن وصف تبسيط النصوص العلميّة بأنه جسر عبور للبحوث في الحقول العلميّة المختلفة، ما يعتبر تدعيماً لمفهوم «التعدّد في الاختصاص»، الذي تنادي به دوائر علميّة كثيرة.
بات من الشائع عربياً القول بأن النقد للأدب والفنون هو عملية أساسية في تطوّرها. والأرجح أن وصفاً مشابهاً ينطبق على العلوم أيضاً، وفق ما يظهر في المجتمعات الغربيّة المنخرطة في نقد العلوم والتفاعل العميق معها.
وفي المقابل، ثمة غياب لنقد العلم عن اللغة العربية وكتابتها ونقاشاتها ومثقفيها. وفي ذلك السياق، ليس من مجازفة كبرى في توقّع أن يؤدي تبسيط النص العلمي إلى طرح أسئلة حول العلوم وأهميّة عملها، ما يحضّ البحاثة، بدورهم، على التفتيش عن مغزى لبحوثهم. ويعتبر النقد أيضاً، ضرورة فعليّة لتطوير العلوم ولدفع بحوثها نحو آفاق ربما لا تنفتح إلا تحت تأثير انتشار التفكير العلمي في صفوف الجمهور الواسع.
وكخلاصة، ثمة رهانات متنوّعة منعقدة على العلوم والمعرفة وتطوّرهما. وتندرج في تلك الرهانات عملية إدخال العلوم في الوعي العام والنقاشات الواسعة للناس. كما تشمل تلك الرهانات محاولة نشر مفهوم التعدديّة والاعتراف بوجهات النظر المتنوّعة، واللجوء إلى الحقائق المتوافرة لحسم الخلافات بطريقة غير قمعية وغيرها.
كذلك، يساعد الخطاب الثقافي المرتكز على التفكير العلمي، في إعطاء العلوم معناها كوسيط بين الإنسان والعالم، ويجعل ذلك أيضاً من مسألة تبسيط العلوم شرطاً لبناء الأفكار عن الوقائع وحوادث الزمان ومجريات الأمور.