حذرت وزارة الخارجية الأميركية مؤخراً (مرة ثانية) من أن أي خطوة تخطوها منظمة التحرير الفلسطينية بهدف تعزيز وضعها لدى الأمم المتحدة، والتي ستفضي، من بين أمور أخرى، إلى تعريض المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة للسلطة الفلسطينية للخطر.
وربما لا يكون ذلك اليوم بعيداً؛ إذ يخطط رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، للطلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة ترفيع مكانة منظمة التحرير الفلسطينية إلى مرتبة دولة غير عضو في وقت لاحق من الشهر الحالي. لكن، هل يعد قطع المساعدات الأميركية شيئاً بالغ السوء؟ تشكك المزيد من الأصوات سلفاً بالمساعدات الدولية التي تقدم للفلسطينيين الذين يعيشون في ظل الاحتلال الإسرائيلي، حتى ذهب البعض من هذه الأصوات إلى حد الدعوة إلى مقاطعة كاملة للمساعدات.
ويحتاج الفلسطينيون فعلاً إلى المساعدة الدولية. ومع ذلك، وفي أعقاب عقود من الفشل، فإن الوقت قد حان تماماً لإرساء أسس أجندة مساعدات بديلة، تذهب فيما وراء مساعدة الفلسطينيين على التعامل مع الاحتلال بينما تسحب إسرائيل الأرض من تحت أقدامهم. وثمة أنموذج بديل من شأنه أن يجعل من المساعدة فعالة وينطوي على تحدي الوضع الراهن ودعم السعي لنيل الحرية والحقوق وتقرير المصير.
وقبل البحث في الكيفية، لعل من المفيد إعادة النظر في المشاكل التي تكتنف المساعدة الدولية بإيجاز. ويتجلى عرض هذه المشاكل أفضل ما يكون في أحدث تقرير صدر عن البنك الدولي بخصوص التنمية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويعرض التقرير تشخيصاً سلبياً للاقتصاد الفلسطيني، ويستنتج، بما لا يثير الاستغراب، أن النمو المستند إلى المساعدة الأجنبية يكون غير مستدام. لكن الوصفات السياسية الخاصة للبنك الدولي تظل دائماً جزءاً كبيراً من المشكلة، لأنها تؤثر بشكل كبير في الطرق التي تصمم بها الجهات المانحة برامجها للمساعدات. وفيما يلي مثالان وحسب:
يجري تطبيق النظريات الاقتصادية التقليدية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتصبح بعض توصيات السياسة غير منطقية على نحو خطير نتيجة لذلك. فقد دعا تقرير النمو فعلياً الفلسطينيين إلى محاكاة النمور الآسيويين عبر “تبني تأهيل موجه نحو الخارج، والاندماج في سلسلة الإمداد العالمي”، قائلاً إنه يتوجب على السلطة الفلسطينية النضال للحصول على بيئة أعمال “تكون من بين الأفضل في العالم”. لكنه ليس ثمة تفسير للكيفية التي تستطيع من خلالها “سلطة” لا تتمتع بأي سيطرة على أراضيها وحدودها ومواردها الطبيعية الخاصة تنفيذ مثل هذا النمو في القطاع الخاص، والذي يستند إلى التصدير.
ويكرر تقرير النمو الاعتقاد الخطير بأن اقتصاد الأراضي الفلسطينية المحتلة يستطيع الاستفادة من الاندماج الأعمق مع الاقتصاد الإسرائيلي. ويهمل ذلك حقيقة أن إسرائيل كانت قد ضمنت أن يكون هذا الاندماج أحادي الجانب، ما يتيح المجال أمامها لاستغلال السوق الفلسطيني المقيد المتلقي للمساعدات الدولية التي تسدد العجز التجاري الفلسطيني الضخم مع إسرائيل.
سوف يركز أنموذج بديل للمساعدات اهتمام الجهات المانحة على طرق من شأنها أن تواجه نزع الملكية والإبقاء على الفلسطينيين في أراضيهم وتحدي سياسات وممارسات الاحتلال الإسرائيلي، من دون مصادرة القدرة على العمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفيما يلي ثلاثة أشياء تستطيع الجهات المانحة دراستها: ترويج الاعتماد الذاتي على الأغذية الأساسية؛ وعكس اتجاه التراجع في القطاع الزراعي ودعم التعاونيات والمؤسسات الاقتصادية المحلية؛ ومساعدة قطاعات مثل تكنولوجيا المعلومات التي تستطيع كسر الحواجز التي أقامتها إسرائيل حول الاقتصاد الفلسطيني.
وليس أي شيء من هذا القبيل مستحيلاً. فخلال الانتفاضة الأولى، ورغم الإجراءات الإسرائيلية المضادة، خفض الفلسطينيون في الأراضي المحتلة اعتمادهم الاقتصادي على إسرائيل عبر تعزيز الاستهلاك المحلي وتوليد التوظيف المحلي. واليوم، أصبحت الحالة أعقد بكثير على ضوء التشظية الأكبر بكثير للأراضي والبناء الاستيطاني الإسرائيلي غير القانوني. ورغم ذلك، ما تزال ثمة إمكانية لعمل الكثير.
يجب أن تتمثل الخطوة الأولى في عكس اتجاه التراجع في القطاع الزراعي: فقد هبطت مساهمته في إجمالي الناتج المحلي من حوالي 13.3 % في العام 1994 إلى
5.2 % في العام 2012. ويعود هذا بشكل ضخم إلى الممارسات الاستعمارية الإسرائيلية، خصوصا في المنطقة (ج) التي تشكل حوالي 62 % من الضفة الغربية وتتوافر على أفضل أراضيها ومواردها المائية. وإلى ذلك، يعزى الأمر أيضاً إلى إهمال السلطة الفلسطينية والجهات المانحة، والذي ترك هذا القطاع في وضع خطير بسبب النقص في الموارد. ولم يتم تخصيص أكثر من 1 % من إجمالي الموازنة السنوية لقطاع الزراعة منذ تشكيل السلطة الفلسطينية (والتي تذهب نسبة 85 % منها إلى رواتب الموظفين)، ما أفضى إلى تراجع الزراعة إلى حوالي 0.74 % من إجمالي المساعدات الدولية مع حلول العام 2006.
وبالإضافة إلى ذلك، تم توجيه القطاع من المواد الغذائية الأساسية إلى المحاصيل النقدية للتصدير، مثل الورود، حتى رغم أن إسرائيل تحكمت في الدخول والخروج من الأراضي المحتلة، مخفضة بذلك إمكانية الاعتماد على الذات.
بدلاً من ذلك، يجب دعم السياسات الزراعية منخفضة الكثافة باستخدام المساعدات المستهدفة لتمكين المزارعين من متابعة أراضيهم والوقوف عليها وتعزيز إنتاجيتها، وهو ما سيساعد أيضاً على خلق الوظائف. ويجب أن يوجه الغذاء الذي يتم إنتاجه بشكل رئيسي إلى الأسواق المحلية، ما يقلل من الاعتمادية على المساعدات الغذائية والواردات الإسرائيلية.
وفي الأثناء، يمكن دعم الوحدات الزراعية المدمجة، كما يقترح خبير البيئة الفلسطيني جورج كرزم. فمثلاً، يمكن استخدام الأعشاب كعلف للماشية في الشتاء، ويمكن للأشجار توفير الغذاء بالإضافة إلى تغذية الماشية وتوفير الوقود، وحيث يتولى فنيون محليون صيانة الآليات والماكنات. وتشتمل احتمالات أخرى على زراعة الأحواض والمدرجات المائية و”الحدائق العمودية” التي يتم استخدامها بشكل ريادي لدى اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة. وتعد المبادرات الشبابية الأخيرة لدعم المزارعين في أراضيهم وتشجيع الاتجاهات التطوعية أمثلة ملهمة. وتستطيع دوائر السلطة الفلسطينية المساعدة من خلال توفير الوصول إلى المساعدة المالية والفنية والمفكرة المؤسساتية، من بين وسائل دعم أخرى.
ثانياً، من المهم تعزيز التعاونيات والشركات الاقتصادية المحلية. فما تزال التعاونيات مهملة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، رغم أهميتها الاقتصادية في الأعمال التجارية الزراعية والصناعات الصغيرة وإنتاج الحرف. وتستطيع التعاونيات كسر الحواجز والتغلب على العزل الجغرافي وتمديد الأسواق -وبناء التضامن الاجتماعي والاعتماد على الذات.
ورغم توجيه بعض المساعدات للتعاونيات، فإنه ما يزال هناك فهم غير كاف من الجهات المانحة لحقيقة أن هذه التعاونيات هي شركات اقتصادية تضطلع بمسؤوليات اجتماعية. لكن المساعدات تضعف التعاونيات عن غير قصد من خلال التعامل معها وكأنها منظمات خيرية، تقدم المنح وتغذي ثقافة الاعتمادية بدل الاعتماد على الذات في أوساط المجتمعات.
يجب أن يكون الاستثمار في بناء قدرة دائرة التعاونيات الحكومية والروابط التعاونية الموجودة على أسس حاكمية سليمة وصحيحة، وعلى تنمية الشركات ومبادئ التعاون. وتقدم الاستثمارات الأخيرة ذات الأغلبية النسائية في قدرة اتحاد الروابط التعاونية على الادخار والائتمان في الأراضي الفلسطينية المحتلة دروساً مفيدة في هذا الصدد.
وفي الحقيقة، يمكن استهداف النشاط الاقتصادي النسائي من خلال التعاونيات، نظراً لأن معظم النساء يعملن أصلاً في الزراعة، ويستندن إلى العائلة، ويعملن في مؤسسات الحرف اليدوية وهن صغيرات. وهناك أيضاً حاجة إلى إيجاد أسواق جديدة لائقة، خصوصا في قطاع الخدمات، بغية زيادة مدى وتنوع عمل النساء.
وثمة مكان آخر لمساعدة الجهات المانحة للأراضي الفلسطينية المحتلة، يكمن في تطوير شبكات الشركات المحلية القابلة للاستدامة، والتي تروج طرقاً تستند إلى السوق المحلية. وقد وثق سامر عبد النور تجارب من هذا النوع في السودان وفي لبنان وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة. وتشتمل الجهود الجارية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي يمكن تطويرها على أساس هذه الخطوط، على مشاريع ثقافية مجتمعية في نابلس وبيت ساحور، ومبادرات إقامة المعارض التجارية للزيتون، ومعرض كنعان التجاري الذي يصل إلى الأسواق الدولية. ومن الممكن أن تشمل التدخلات الأخرى الزراعة على أسطح المنازل وامتيازات الصحة صغيرة النطاق وتدريب القابلات القانونيات.
وثمة منطقة ثالثة واعدة للاستثمار، تكمن في قطاع تكنولوجيا المعلومات الفلسطيني الذي قد يكون قوياً نسبياً أمام القيود الإسرائيلية الصارمة المفروضة على حرية حركة الفلسطينيين. وكان الاستثمار في القطاع موحياً من خلال المساعدة على رفع الآمال في الأعوام 2008 إلى 2010. ومنذ العام 2009، يجري استثمار 78 مليون دولار في هذا القطاع، بينما نما قطاع تكنولوجيا المعلومات من 0.8 % إلى 5 % من إجمالي الناتج المحلي الفلسطيني بين العامين 2008 و2010 -رغم العائد المتواضع الذي لم يتجاوز 6 ملايين دولار. وتشكل هذه المنطقة بالنسبة للاقتصاد الفلسطيني منطقة نمو نادرة، تعتمد أقل على المساعدات الخارجية، وتعتمد أكثر على طبيعتها كاستثمار للقطاع الخاص.
وقد ذهبت شركة التكنولوجيا الأميركية “سيسكو” التي استثمرت مبلغ 15 مليون دولار في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعيداً إلى حد القول “إن فلسطين على وشك أن تصبح ثاني نقطة ساخنة كونية للتكنولوجيا الفائقة”. ويشير غيزل كوردستاني من شركة “غوغل” إلى مكامن القوة الفلسطينية في التعليم ومهارات اللغة الإنجليزية، فيقول إنها تستطيع المساعدة على “بناء شيء ما للعالم العربي”.
ومع ذلك، يبقى حتى قطاع تكنولوجيا المعلومات رهينة عند الاحتلال أيضاً. فعلى سبيل المثال، أعاقت إسرائيل تحديث أجهزة الاتصالات الفلسطينية الضرورية لازدهار قطاع تكنولوجيا المعلومات، وهي لا توفر الذبذبات لخدمات الجيل الثالث، مما يضع القطاع في حالة عوز تنافسي كبير. وبالإضافة إلى ذلك، ثمة خطر يتمثل في أن الشركات الإسرائيلية ستجني حصة الأسد من العوائد وتعيد تعزيز سلالات الظلم في السيطرة، والتي تجعل النمو مستحيلاً في ظل الاحتلال. وثمة إمارة منذرة تكمن في أن إسرائيل نفسها توجه الجهات المانحة الأوربية ضد هذا القطاع.
وأخيراً، هناك موضوع عدم إلحاق الأذى بالفلسطينيين. ذلك أن بعض المانحين الذين يمولون التنمية الفلسطينية يمولون أيضاً تعاون السلطة الفلسطينية الأمني مع إسرائيل، ومشاريع تستهدف “تطبيع” الاحتلال. ولذلك، تواجه المساعدات الآن الرفض من جانب الحركات الشبابية، بالإضافة إلى حركة المقاطعة ونزع الاستثمار وفرض العقوبات على إسرائيل. وتدعو بعض الأصوات الفلسطينيين إلى رفض المساعدات من الدول التي تدعم النشاطات العسكرية الإسرائيلية بشكل مباشر. وهكذا، تحتاج أجندة مساعدات بديلة إلى حماية سياسية من جانب الوكالات المانحة وحكوماتها، لأنها ستشكل تحدياً مباشراٍ للمؤسسة الكولونيالية الإسرائيلية. كما أن النموذج البديل الذي يضم أنواع السياسات والبرامج الموصوفة سالفاً يجب أن يكون مرتبطاً بعملية سياسية تضمن الحقوق الفلسطينية وفق القانون الدولي. وبغير ذلك، فإن الجهات المانحة تخفف وتهدئ الألم وحسب، بينما تستمر إسرائيل في استعمار ومصادرة ملكية الشعب الفلسطيني.
ناديا حجاب، علاء الترتير وجيريمي وايلدمان* – (فورين بوليسي) 6/11/2012
ترجمة: عبد الرحمن الحسيني