ثمَّة خلل كبير في طريقة التفكير والفَهْم التي اعتادتها أذهاننا العربية، وجُبِلَت عليها، حتى أصبح أمْر تمييزها من الذِّهن (أو العقل) العربي نفسه من الصعوبة بمكان؛ فَكَمْ مرَّة لَبَّيْنا، في عقولنا، دَعْوَة الشيء (أو الحادث أو الخبر..) لنا إلى أنْ نَفْهَمه كما هو، بلا زيادة ولا نقصان، وبحجمه الواقعي؟!
حتى في أبسط الأمور نشكُّ ونرتاب؛ فعقولنا شَكَّاكة، وقلوبنا مرتابة، ولو كان الأمر مدار شكنا وارتيابنا بوزن، أو حجم، زيارة لكَ يعتزمها جاركَ.
لقد أخبركَ بأنَّه يعتزم زيارتكَ، فما كان منكَ إلا أنْ جَعَلْتَ عقلكَ الشكَّاك (أو قلبكَ المرتاب) مجهراً لرؤية ما دَقَّ وخَفِيَ واستتر من المعاني والنِّيَّات والمقاصِد والأغراض؛ واشتعل رأسكَ بالأسئلة والتساؤلات؛ فإنَّ وراء الأكمة ما وراءها؛ وليس مُمْكِنا، من ثمَّ، أنْ نَفْهَم ونُفسِّر هذا الأمر البسيط (زيارة الجار) بما يوافِق بساطته. ولو انتهت الزيارة إلى ما ينبغي له أنْ يذهب بشكوككَ وظنونكَ، وبكل ما توقَّعت، فلن ينتهي تفكيركَ في أمْر الزيارة في الطريقة نفسها.
حتى «النُّصوص»، ولو كان كلامها جامعاً مانعاً، ولا اجتهاد من ثمَّ مع النَّص، لا تنجو من هذه الطريقة العقيمة في التفكير والنَّظر إلى الأمور؛ فالمعاني والمقاصِد الحقيقية يُضْرَب عنها صفحاً، ويُضحَّى بها، ليُسْتَنْفَد كثيرٌ من الوقت والجهد في «اكتشاف (لا بَلْ في اختراع)» معانٍ ومقاصِد «أُخْرى (أو جديدة)»؛ مع أنَّ المرء لا يحتاج إلا إلى قليلٍ من تشغيل الذِّهن ليتوصَّل إلى «رؤية» ما يريد «رؤيته»، في أيِّ نصٍّ أو خبر أو حادثة أو ظاهرة.
إنَّه «مَرَضٌ ذهني»، شرقيٌّ، وعربيٌّ على وجه الخصوص، تُفْصِح عنه هذه الطريقة في التفكير والفهم، والتي لا تقودنا إلا إلى أفكار وآراء ووجهات نظر ومفاهيم.. من جِنْسِها؛ فإمَّا أنْ نُهوِّل، وإمَّا أنْ نُهوِّن؛ إمَّا أنْ نُفْرِط، وإمَّا أنْ نفرِّط؛ إمَّا أنْ نضخِّم، وإمَّا أنْ نُبخِّس؛ فالحبَّة قُبَّة، والقُبَّة حَبَّة؛ أمَّا النَّظر إلى الأمور بحجومها الواقعية، أو قبول أذهاننا لها على ما هي عليه، فهذا ما نأبى تجربته واعتياده. إنَّنا لا نرى من «الواقع» المُلوَّن بألوان «قوس قُزَح» إلا لونين اثنين لا غير: «الأبيض»، و»الأسود»؛ فالمرء مِنَّا (في سلوكه، ومواقفه الواقعية والعملية) عَدُوٌّ لدود للمتنبِّي؛ ففي عينه تَعْظُم الصغائر، وتَصْغُر العظائم؛ فكيف له أنْ يَسْتَجيب، أو يُحْسِن الاستجابة، لتحدِّيات الحياة؟!
والمرء مِنَّا يَنْسِب كل ما حلَّ به من مصائب وكوارث، وكل فَشَلٍ وإخفاق انتهى إليه عمله ومسعاه، إلى «القضاء والقدر»، أو إلى غير يديه، وكأنَّه لا يَنْضَح إلا بالنجاح، وبخير الأمور؛ يُعظِّم شأنه إذا ما نجح، ويُحَمِّل «القضاء والقدر» مسؤولية فشله وإخفاقه؛ فمتى يتعلَّم العيش في «العالَم الواقعي»، وفي عالَم الموازين والمقاييس الواقعية، والذي فيه نرى الأشياء والناس والأفكار في أوزانها وحجومها الحقيقية؟!
وإذا كان «عدم الفهم» هو الغاية التي ينشدها المرء فما عليه إلا أنْ يأخذ بهذه الطريقة في الفهم. إنَّكَ يكفي أنْ تأخذ بها حتى لا يبقى من شيء يمكن فهمه على أنَّه النتاج الطبيعي والحتمي لتطوُّره الذَّاتي؛ فـ»العلَّة الأخيرة والنهائية» لا يُبْحَث عنها في داخله، وإنَّما في خارجه؛ وكثيرا ما رَأيْنا هذه الطريقة في النَّظر إلى الأمور تقود، في عالَم السياسة، إلى آراء ووجهات نظر، مدارها جمعياً، «المؤامرة»، بصفة كونها «العلة الحقيقية والأخيرة والنهائية».
الايام
هذا الخلل الكبير بطريقتنا في التفكير! ..بقلم :جواد البشيتي

Leave a comment