بقلم: غور ليش/ بعد هذا كله، هل كان يمكن لإسرائيل تدمير مزيد من البنية التحتية؟ وهل سيُفاجأ أحد إذا استمر التهديد “الإرهابي” من غزة، بما يشمل القصف الصاروخي من وقت إلى آخر، حتى بعد تحقيقنا “النصر المؤزر”، بعد تحقيق النصر الكامل في غزة وهزيمة “حماس”؟ هل يمكننا حقاً منع حدوث ذلك؟ فإن لم نتمكن، فما هي الفائدة من استمرار الحرب إلى الأبد؟
يخوض الجيش الإسرائيلي الحرب بأشكال متفاوتة من الشدة منذ عشرة أشهر فعلياً. يقاتل الجنود النظاميون باستمرار تقريباً، في حين باتت قوات الاحتياط في دورة عملها الثالثة. والمعدات والأدوات تتحمل عبئاً أكبر كثيراً مما تم تصميمه لها، وفقاً للعقيدة الحربية الإسرائيلية، فهل يمكن لأحد أن يفترض أن هذا الجهد يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية؟ هل هناك حدود لساعات تشغيل ونشاط الآلة العسكرية الإسرائيلية؟ هل هناك علاقة بين طول الحرب في غزة، والوضع الاستراتيجي المعقد على الحدود الشمالية؟
يدّعي مؤيدو الرؤية البديلة أن رؤية بن غوريون لم تعد توفّر الأمن. ويقول هؤلاء، إن الامتناع من تحقيق النصر الكامل يعود في المقام الأول إلى الضعف. فهل تحقيق الرؤية الجديدة ممكن من ناحية الأدوات؟ أو من ناحية الشرعية الدولية؟ أم أن هذا الادعاء يتجاهل الواقع؟
عندما يُطرح السؤال عمّا يجب فعله بشأن نقص الذخائر، غالباً ما تكون الإجابة أنه كان من المفترض أن تحقق إسرائيل الاكتفاء الذاتي في هذا المجال. لكن: كيف يمكننا الآن، في هذه اللحظة، شنّ حرب باستخدام ذخائر كان يجب علينا أن نهتم بإنتاجها، لكننا لا نملكها؟
يُضاف إلى ذلك أن الذين يقولون بضرورة تبنّي رؤية بديلة يتجاهلون حاجتنا إلى الدعم العسكري والسياسي الأميركيَّين. فهل يمكن لإسرائيل، الآن، مواجهة جميع التهديدات من حولها بمفردها، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً؟ وهل يمكن لإسرائيل البقاء دون دعم أميركي في الأمم المتحدة؟ هل يمكن لإسرائيل أن تصمد في حال فُرض عليها حصار عالمي؟
هناك مَن يُظهرون مشاعر رومانسية، مستحضرين المصاعب التي عاشها الطلائعيون، مؤسسو إسرائيل، في “حرب الاستقلال”، مستدلّين على أن المصاعب والصمود فيها هما اللذان يحققان النصر، في “حرب الاستقلال”، كنا وحيدين وقلة في مواجهة كثيرين، لكننا انتصرنا.
يتناسى هؤلاء أن الجيش الإسرائيلي الفتي، بعد الهدنة الأولى في حرب 1948، تمكن من تعزيز قوته والوقوف الند للند، بل وقفة المتفوق، ضد جيوش مصر والقوات الزاحفة من الشمال. بالمناسبة، لم يتمكن الجيش الإسرائيلي من صدّ الجيش الأردني المجهز والمنظم آنذاك. صحيح أن إسرائيل انتصرت في حرب 1948، لكنها كانت بعيدة كل البعد عن هدف القضاء على أعدائها وتحقيق النصر المؤزر آنذاك. صحيح أن الإرادة والإيمان مهمّان في الحرب، لكنهما لا يضمنان تحقيق الإنجازات العسكرية. ويمكن لنا أن نتشبث ببسالتنا في التصدي للمصاعب في الماضي. لكن علينا ألّا ننسى أن هذه الصعوبات ليست شرطاً مادياً لتحقيق النصر، بل العكس هو الصحيح.
هناك أيضاً دوافع أيديولوجية تقف خلف محاولة تغيير الرؤية الأمنية. فاليمين الإسرائيلي لا يؤمن بالتوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين، ولا يرغب في دولة ثنائية القومية. إن معنى الامتناع من إجراء التسوية هو اختيار الحرب الأبدية. ووفقاً للوزير في وزارة الدفاع سموتريتش، تحتاج إسرائيل إلى رؤية أمنية تشمل حرباً مستمرة ضد الفلسطينيين إلى أن يتم القضاء عليهم. إن وجهة النظر هذه ترى ميزة في الحرب التي لا تنتهي، وتتمثل هذه الميزة في القضاء على التهديد الفلسطيني لإسرائيل.
لقد حددت الحكومة هدفاً غير ممكن، وفقاً لرؤية بن غوريون، أمّا الجيش الإسرائيلي فقد انطلق لتحقيقه دون أن تكون لديه خطة، ودون أن يعين إطاراً زمنياً لتحقيق الأهداف. انطلق الجيش الإسرائيلي إلى حرب “السيوف الحديدية” دون أن تكون لديه خطة واضحة لِما يحاول تحقيقه عسكرياً، وكيف يمكنه تحقيق ذلك، والأهم: كم يلزم من الوقت، وما هي الوسائل المتاحة له لتحقيق هذه الخطة غير المحددة. لكن المرء، عندما يرسم خطة عسكرية، يجب أن يستند إلى الموارد المتاحة له، فلا ينبغي له التخطيط، بناءً على قدرات لا يملكها، ومعدات تنقصه، ووقت لا نهائي وغير محدد لا يملكه لتحقيق أهدافه.
يوضح دخول “حزب الله” إلى الحرب، بالطريقة التي اختارها نصر الله، العبثية في كيفية إدارة إسرائيل الحرب. إذ تم إخلاء منطقة كاملة من سكانها، وتم تهجيرها فترة غير محددة، لأن الجيش الإسرائيلي يبذل كل جهده في القطاع، ولا يمكنه تخصيص الموارد اللازمة للقتال على الجبهة الشمالية.
ما هو الوضع الاستراتيجي لإسرائيل إذا ما انتهت الحرب في غزة، الآن، باتفاق تبادُل للمخطوفين، ودون أن يتم “ترحيل” حكومة “حماس” إلى تونس؟ وهل الثمن الهائل الذي دفعته غزة سيترك لدى “حماس” وبقية أعداء إسرائيل رغبة في الاستمرار، بعد أن تخبو هتافات الانتصار الإسرائيلية التي تحيي الأسرى العائدين إلى صفوفهم؟ أم إن الثمن الذي دفعته غزة، وربما الحيلولة دون إعادة إعمارها، ما دامت “حماس” في السلطة، سيكون كافياً لإعادة موضعة إسرائيل كقوة عسكرية إقليمية؟
هل هناك فعلاً حاجة إلى رؤية أمنية جديدة؟ رؤية تشمل تدمير كل تهديد خارجي في حرب شاملة حتى القضاء عليه؟ إن القضاء على “حماس” يتطلب، حسبما نرى، تسعة أشهر على الأقل. فكم من الوقت، وكم من الذخائر والقوة العسكرية سيتطلب القضاء على “حزب الله”؟ وبعد القضاء على “حزب الله” ما الذي سيمنع القوات المدعومة من إيران في سورية والعراق واليمن من الاستمرار في قتالنا؟ كيف يبدو القضاء عليهم عسكرياً؟ وكل هذا، وصولاً إلى الجائزة النهائية التي ستأتي في النهاية – ما الذي يحتاجه الجيش الإسرائيلي للقضاء على إيران وتحويلها إلى شريك في اتفاقيات أبراهام؟
وفقاً للرؤية الجديدة، لا يمكن الاعتماد على الردع الذي يثبت دائماً فشله. ولا جدوى من حرب قصيرة لا تقضي تماماً على العدو. إذا ما كان هدف الحرب يتمثل في تحقيق النصر المؤزر، فعلينا بناء القوة لدعم هذا الجهد. وبناءً عليه: كم يوماً من الحرب علينا إعداد مخازننا؟ أسابيع، أم أشهرا، أم سنوات؟
وفقاً لـ”ظاهرة الحرب الطويلة”، يجب على الجيش الإسرائيلي الاستعداد والتزود بالذخائر، وإعداد الجنود لحرب تستمر أعواماً. فهل سيحتمل الاقتصاد الإسرائيلي ذلك؟ هل يمكن للاقتصاد الإسرائيلي تحمّل “أكبر جيش في الشرق الأوسط” (كما حدث بعد حرب “يوم الغفران”)؟ هل يمكن للمجتمع الإسرائيلي الذي يدعم الاقتصاد ويخدم في الاحتياط تحمّل ذلك؟ هل ستبقى إسرائيل “جنة” للمستثمرين في ظل هيكل اقتصادي من هذا الطراز؟ هل سيتعين على أعداء إسرائيل تنفيذ هجوم 7/10/2023 آخر، أم عليهم مجرد الاكتفاء بانتظار مشهد انهيار مشروع بن غوريون من الداخل؟ هذه “المعجزة” الإسرائيلية سيتم تدميرها من الداخل. ربما يكون لدى إسرائيل جيش مجهز جيداً آنذاك، لكن ماذا سيحدث للدولة التي تعتمد عليه؟
كيلا ننهي النقاش بقول ضبابي، مفاده أن هذه الرؤية التي تفضل الحرب الطويلة الأمد من أجل تحقيق النصر المؤزر، والقضاء التام على التهديدات، هي أمر غير ممكن أو غير واقعي. دعونا نفحص ما كان يمكن لإسرائيل أن تفعله خلال الفترة الماضية، بل دعونا نفحص ما الذي لا يزال في إمكان إسرائيل فعله، وفقاً للرؤية القديمة.
لو تمت إدارة حرب “السيوف الحديدية”، وفقاً للرؤية الأمنية، يمكننا التفكير في الاستراتيجيا التالية (على سبيل المثال):
كان الجيش الإسرائيلي سيكتفي بتوجيه ضربة قوية إلى “حماس”، دون أن يوجه ضربة إلى جميع أراضي القطاع، مع إنشاء منطقة عازلة تماماً في شمال القطاع. منطقة كانت ستصبح، لاحقاً، نواة لإقامة حكم بديل. كانت إسرائيل ستتوصل مبكراً إلى اتفاق تبادل أسرى بثمن باهظ يتمثل في إطلاق سراح “الإرهابيين”، والإبقاء على حياة بعض قادة “حماس”، لكن هذا الاتفاق سيشمل أيضاً تشكيل منطقة حدودية جديدة وجدار يوفر الأمان الكافي لضمان عودة السكان إلى “مستوطنات الغلاف”. كانت إسرائيل ستحتفظ بالدعم الدولي، وربما تشارك في إنشاء تحالف إقليمي مع السعودية. ولكان الجيش الإسرائيلي سيحتفظ بمقدّرات كافية لخوض حرب ضد “حزب الله”، وهي مقدرات سيمنع توفرها حدوث الحرب نفسها، وتساعد في التوصل إلى تسوية قد تعيد سكان الشمال إلى منازلهم.
صحيح أن هذا الحل لا يمثل انتصاراً مؤزراً، وصحيح أن “حماس” كانت ستستمر في الوجود في ظله. لكن، كانت ستتوفر لدينا ظروف كافية لإقامة حكم بديل، على الأقل في شمال القطاع، في منطقة كانت ستبدأ بالتعافي بينما يبقى جنوب القطاع في الخراب. ربما كان الجيش الإسرائيلي سيحتاج إلى جولة حرب أُخرى في جنوب القطاع، لكن هذا هو قدر إسرائيل – هكذا كانت حالنا دائماً، وهذا ما ستكون عليه. كانت حكومة حماس ستنهار في النصف المدمّر من غزة. ولكانت الأوضاع المزرية في جنوب القطاع، توفر لإسرائيل صورة رادعة، حتى الجولة المقبلة على الأقل، كنا سنخوض حرباً قصيرة، مجرد جولة أُخرى، لكن عودتنا إلى الروتين كانت ستتيح لنا إعادة بناء أنفسنا والتعافي.
نستقي من الأشهر التسعة الماضية أن الألم ليس ضماناً لتوفّر قدرة متخيلة لدينا. فإسرائيل ليست سوى جزيرة، تعتمد على جيش الاحتياط. والحرب الطويلة الأمد ليست حلاً لمشاكلها الأمنية. لن نتمكن من التوصل إلى نصر تام، لكن من شأننا، في المقابل، أن نصل إلى إخفاق تام، إذا بقينا نطارد النصر وقتاً أطول من اللازم، دون أن نفكر في حدود قوتنا واقتصادنا ومجتمعنا.
عن موقع “مركز بيغن – السادات للدراسات الاستراتيجية”