قد تشعر في لحظة ما بالشفقة على الحكومة الحالية لما تواجهه من مشاكل وعقبات داخلية انطلقت مرة واحدة بلورتها معظم فئات وشرائح الشعب تقريبا ، فمن نقابات الموظفين العموميين والمهن الطبية والصحية والنقل العام واتحاد المعلمين ومطالبهم الكثيرة الى ظاهرة إشعال النار في الأجساد احتجاجا على إزالة البسطات من الشوارع الرئيسية ، واحتجاجا على قرار بإعفاء المخيمات فقط من ديون الكهرباء ويزيدها تفاقما ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم والمصالحة المتعثرة وحياة الأسرى .
ان مجمل هذه الأزمات يكمن في عدم قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها اتجاه مواطنيها في كل نواحي حياتهم : فهي غير قادرة على حمايتهم من اقتحام الجيش الإسرائيلي لمناطق سكناهم واعتقالهم وهدم منازلهم في أي وقت ، وغير قادرة على تصور مستقبل ملائم لهم نتيجة للجمود السياسي وسياسات اسرائيل مدعومة بالولايات المتحدة الأمريكية ، وغير قادرة على ترسيخ مبدأ الشفافية والعدل عن طريق مكافحة الفساد الذي لا يردعه رادع وتحكمه مافيا خاصة لا تطالها يد القانون او ميزان العدالة.
ان الوضع في الضفة الغربية خطير جدا وحساس لدرجة المرض حيث يستمر التأرجح ما بين تحدي الحكومة وصمودها وما بين المطالبة بحلها وبتفكيك السلطة الفلسطينية ذاتها ، وهذا الوضع هو ما يشكل الدافع لكل الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها الضفة والتي تتزايد حدتها يوما بعد يوم .
ان من المنطق اخذ كافة الجوانب المتعلقة بالمشكلة قيد البحث حتى لا نظلم أحدا وحتى لا نتسرع في الحكم لذا فإننا نرفض التعامل بالإسرار والغيبيات فالحكومة مطالبة بالصراحة ومصارحة الشعب بكافة الأمور التي تلزمه والتي تهمه في حياته حيث نرى ان الحكومة تربط الحل فقط بإفراج اسرائيل عن مستحقاتنا الضريبية وبوصول الدعم العربي والأجنبي وضخه دون انقطاع ولم يرد ذكر التطوير الاقتصادي وإقامة المشاريع التنموية والمناطق الصناعية ، ثم جاءت خطة التقشف والتي تعتمد على الموظفين وسلبهم من ابسط حقوقهم والتي هم أصلا يثورون ويضربون من اجلها !! في المقابل فنحن كشعب مطالبون أيضا بالاعتراف بالأمر الواقع وبالتحديات التي تواجهنا نحن والحكومة معا وان نراعي الظروف الصعبة التي تعيشها المنطقة.
ان هذا لا يعني تشجيع الحكومة على ما تقوم به او دعما لها بل الأمر يتعدى ذلك لمرحلة المراجعة الذاتية لكل ما مر والتخطيط لما يمكن ان يحدث بدءا من مشكلة توفير الأموال بلا انقطاع وهذا يشكل دعوة للبحث عن مصادر تمويل ضخمة ومراجعة كافة العلاقات والتحالفات والجهات المانحة والداعمة .
لا يمكن لهذا الوضع ان يستمر الى ما لا نهاية حيث ترسخت العقبة الأساسية في وعود لكافة الأطراف المحتجة من قبل الحكومة دون تحقيق شيء ملموس على ارض الواقع ، وهنا يأتي السؤال للجميع. من أين ستأتي الحكومة بحلول ترضي جميع الأطراف بخزائن فارغة على حد زعمها ؟ ولماذا تعد الحكومة دون وجود ضمانات بتحقيق ما تعد به ؟
هناك جواب بسيط يلمح الى ما تقوم به الحكومة وهو كسب الوقت . ولكن ما هو الوقت الذي تنتظره الحكومة والذي يأتي بالحل السحري لكافة القضايا المطروحة ؟ وماذا يحصل في الخفاء يجعل الحكومة مليئة بالثقة بقدرتها على البقاء؟ ولماذا يبدو الاضراب وتعطيل المؤسسات الحكومية واغلاق المدارس والمؤسسات التعليمية والصحية حدثا عاديا لدى الحكومة ؟
هل كان لزاما على الحكومة توضيح موقفها ونشر ذلك على العلن والوقوف امام كاميرات التليفزيون في بيان الى الشعب مثلا ؟ هل الوضوح والشفافية والطلب من الشعب المساندة والتشارك مع الحكومة في الحل يقلل من هيبة الحكومة ؟ هل يقدّر الشعب الموقف في حال توضحت له الحقيقة ورأى انه في خندق واحد مع حكومته ؟
لقد اعتبرت الحكومة ذهابها الى الأمم المتحدة والحصول على العضوية انتصارا ينسيها بقية المشاكل التي تعاني منها وُينسي شعبها الذي وقف معها وقفة مهيبة ما اقترفته من أخطاء أوصلتهم الى حال التمرد والى أحلام البعض في الوصول الى مرحلة متقدمة قد تفتح الطريق الى ربيع مماثل لربيع لسوريا او ربيع مصر….
نحن لا ولن نقبل بفصل الربيع كالذي صبغ عدة بلدان عربية بدعم الامبريالية والصهيونية ولن نسمح له باختراق نسيجنا الوطني المتين لان وعينا وهدفنا المشترك بمقاومة التحديات الوجودية التي تهددنا اكبر من أي أجندة تحاول جرّنا الى المحظور والى خسارة ما بنته سواعد ثوارنا على مدى عقود النكبة .
لا شك ان الاحتلال له النصيب الأكبر في خلق المشكلة وهذا ما يجب ان يشكل الدافع للتحالف بين جميع الأطراف والتوافق على حلول ترضي الجميع ثم التوصل لحلول جذرية ولكن الحكومة هي المسئولة قبل غيرها عما وصل إليه الحال فكثير من الدعوات وجهت لها لتعديل المسار وكان لديها الوقت الكافي على مدى سنوات الهدوء الا ان التيه السياسي والضياع الاقتصادي أضاع عليها فرصة الإصلاح وفرص عقد تحالفات جديدة واتفاقيات تدر عليها الأموال وتصل بها الى منابع النفط الرخيص.
ان الوضع الذي نعيشه لا نحسد عليه حيث التعقيد الداخلي والخطر الخارجي ، فجوات النار تلتهب فإذا حصلنا على الأموال وسرنا باتجاه المصالحة ولم الشمل تشتعل النار ونهدد بالحرب الاقتصادية الشاملة ويُطلب منا الرضوخ والاستسلام والقبول بالحلول التصفوية مقابل ذلك وإذا لم نحصل على الأموال تهب علينا النار من الداخل. ان هذا الوضع معقد فالحكومة هي جسم فلسطيني يعاني أيضا من سياسات الاحتلال تخطأ كثيرا وتصيب قليلا ، والواضح أنها لم تبذل الجهد الكافي في فهم المعادلات المتجددة والمتطورة باستمرار مع تغير الأهداف والسياسات المضادة حيث زادت وتيرة الاستيطان وزادت معاناة الأسرى وقلت الأموال او أهدرت ودخلت جهات خارجية الى المسرح السياسي بأهداف ما زال معظمها مجهولا ولكنها تعمل على تغليب جانب على آخر وتساعد على إطالة أمد الانقسام وترسيخ سياسة فرض الأمر الواقع بشكل تدريجي.
هذا الواقع الأليم له نهاية ونهايته العمل الجماعي الذي ينجح باحترام وتقدير الرأي الآخر ، وبذل الجهد من اجل تحقيق العدالة الغائبة خلف كتل الفساد ، العمل من اجل المصلحة العامة والتشارك في وضع الأهداف والسياسات ، المحاسبة على أساس المساواة في الثواب والعقاب ، تفعيل الجهاز القضائي وإعطاءه الصلاحيات المطلوبة ، الوضوح والإعلام من قبل الحكومة والابتعاد عن الضبابية والمراوغة ، الالتزام بالوعود بعد إعطاءها عن ثقة، إيجاد الحلول البناءة والابتعاد عن المس بحقوق الموظفين التي كفلها لهم القانون والتشريعات ، وأخيرا استقطاب الكفاءات ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب .
ان الطريق شاق وطويل وتلوح في الأفق تسويات قادمة لا نثق بها كثيرا وربما تهدف الى إضاعة الوقت وقتل الأمل في تسوية عادلة يعطى من خلالها الشعب الفلسطيني كامل حقوقه وذلك بفرض أنصاف الحلول من خلال التلويح بالفتات والقليل من الأموال لسد الرمق ، وكلما كان انحراف او تمرد تتقطع وتتذبذب أموال الضرائب في الوصول ويجبر العرب على المقاطعة وتقطيع شبكة الأمان وحياكتها من جديد كي تصبح شبكة لصيد السمك ثم نعود من نقطة البداية وكأن شيئا لم يكن.
ورغم وعينا ومعرفتنا بحقيقة المعادلة الا ان الحل يكمن في القوة وعمادها الوحدة والعمل الجماهيري الموحد والثبات في المواقف والقدرة على إقناع الآخرين بعد ان ننهي مشاكلنا الداخلية ونحترم بعضنا وتأخذ الحكومة حاجات ومتطلبات موظفيها بالاعتبار والاحترام مع العلم ان أعضاء الحكومة هم أيضا موظفين يتقاضون رواتبهم من نفس المصدر …