كان نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في وارسو قبل بضعة أيام لطمأنة حلفاء الناتو الشرقيين بأنهم يحظون بدعم “حليف ثابت”. ولكن، في حال تحركت روسيا ضد بولندا أو دول البلطيق، هل ستذهب الولايات المتحدة إلى الحرب؟ أم أننا لن نفعل أي شيء ونقوم بالتالي بتدمير حلف الناتو فعلياً؟
كان الرئيس اوباما قد استبعد أي “نزهة عسكرية” في أوكرانيا. وليست أميركا ملتزمة من ناحية قانونية باتخاذ إجراء ضد روسيا بسبب ضمها للقرم. ولن نذهب إلى الحرب إذا شنت روسيا غزواً واسع النطاق على أوكرانيا لإعادة تنصيب حكومة فكتور يانوكوفيتش الموالية لموسكو، والتي كان قد أطيح بها وتخضع راهناً لعقوبات أميركية. حتى أننا لن نرسل قوات لو جرت قسمة أوكرانيا أو قامت روسيا بامتصاصها. ولا ينطوي الأميركيون على أي مصلحة في هذا الصراع، كما أنه لا شهية لهم في ذلك.
لكن حلفاء الناتو هم مسألة مختلفة. فمعاهدة شمال الأطلسي هي اتفاق دفاع متبادل، وتقول المادة 5 منها أي هجوم مسلح على أي دولة عضو “سوف يعد هجوما على الدول كافة”. وهذا خط أحمر واضح. وكانت المرة الوحيدة التي جرى الاستناد فيها إلى المادة 5 هي ما جرى في أعقاب الهجمات الإرهابية في 11 أيلول (سبتمبر) من العام 2001، حيث أرسلت معظم دول الناتو قوات لدعم الجهود في أفغانستان والعراق.
السؤال المطروح الآن هو: هل من الممكن أن تتمدد الأزمة الراهنة بحيث تمس الناتو؟ تجري مقارنة الأوضاع المتطورة في أوكرانيا بامتصاص ألمانيا للنمسا في العام 1938، أو بالتقسيم اللاحق لتشيكوسلوفاكيا وتفكيكها. وقد ساقت هيلاري كلينتون مقارنة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبين أدولف هتلر، الأمر الذي يضع الرئيس أوباما امتداداً لدور رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبيرلين الذي فشل على نحو مشهود في تحقيق “السلام في زماننا” في ميونيخ.
فلندفع بالتشابه أكثر قليلاً. كانت الحرب العالمية الثانية قد أشعلت فتيل مقاومة وارسو للمطلب الألماني بضم الممر البولندي، وهو شريط صغير من الأرض -أصغر من القرم- يفصل بين المقاطعات الألمانية التابعة لبوميرانيا وبين بروسيا الشرقية. ورد هتلر عبر غزو بولندا وتقاسمها مع الاتحاد السوفياتي. وتعهدت بريطانيا وفرنسا بالدفاع عن الاستقلال البولندي. وبعد يومين من تنفيذ ألمانيا للغزو، أعلنتا الحرب. وفي رسالته الحربية، شرح تشامبرلين أن أفعال هتلر أظهرت أنه “ليست هناك فرصة لتوقع أن يتنازل هذا الرجل أبداً عن ممارسته في استخدام القوة لفرض إرادته. ومن الممكن أن يتم وقفه بالقوة وحسب”.
قد ينطبق هذا على السيد بوتين وقد لا ينطبق عليه كما زعمت السيدة كلينتون. لكن، إذا نشأت ظروف مشابهة في المستقبل القريب، فهل ستحترم الولايات المتحدة الضمانات الأمنية التي قدمتها لبولندا ودول البلطيق عندما كان التهديد الروسي نظرياً وحسب؟
كان السيد بايدن قد وقف مع الرئيس الأستوني توماس إيلفيس، يوم الثلاثاء قبل الماضي من أجل “إعادة التأكيد على التزامنا المشترك بالدفاع الجمعي عن الذات وفق المادة 5”. وأراد أن يجعل “معناها واضحاً بشكل مطلق للشعب الأستوني”، وأن “الرئيس أوباما وأنا ننظر إلى المادة 5 من معاهدة الناتو على أنها التزام مقدس بشكل مطلق سوف نحترمه- سوف نحترمه”. وبعد ذلك بوقت قصير أعربت موسكو عن “القلق” من المعاملة التي يلقاها الإثنيون الروس في إستونيا. وبرر السيد بوتين أعماله في القرم بالقول بأنها “تعيد الوحدة” للشعب الروسي. ويشكل الإثنيون الروس في إستونيا نحو
25 % من السكان في مقابل 17 % في أوكرانيا، غالباً في الجزأين الشمالي والشرقي من البلد. وافترض أن أعمال شغب معادية للروس تندلع “بشكل عفوي” في إستونيا. فما الذي يمكن أن تفعله الولايات المتحدة إذا أقدمت موسكو على استحضار مبدأ “مسؤولية حماية” لهؤلاء الناس و”إعادتهم” إلى الوطن الأم؟ هل سيتخذ الرئيس أوباما عملاً عسكرياً ضد روسيا بسبب بلد صغير وقطعة صغيرة منعزلة وقصية؟ هل ستكون ثمة محاكاة لقصة الممر البولندي في العام 1939؟ هذا شيء مشكوك فيه بدرجة عالية.
ألسنا ملزمين بموجب المعاهدة بالتدخل؟ ذكر السيد بايدن “الالتزام المقدس المطلق الذي سنحترمه”. كان ذلك شيئاً مهماً جداً كرره مرتين. ومع ذلك، تقول المادة 5 إن أعضاء الناتو يتعهدون بأن يأتوا لمساعدة الدولة التي تتعرض للهجوم عبر استخدام “أي إجراء تعتبره ضرورياً، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة”. ولا يستغرق الأمر وقتا من محامي البيت الأبيض ليشاهد الثغرة القانونية الواضحة؛ يستطيع الرئيس أوباما ببساطة اعتبار استخدام القوة الأميركية أمراً غير ضروري. ويستطيع السير متراجعاً عن الخط الأحمر كما فعل مع سورية، على أن يتبع ذلك حديث صارم مع فرض الحد الأدنى من العقوبات. لكن استونيا ستخسر بعض أراضيها إذا لم تكن كلها. وبعبارات عملية، فإن ذلك يعني نهاية حلف الناتو، وهي واحدة من أهداف موسكو الإستراتيجية طويلة الأمد. ولا تنتهي لعبة شطرنج السيد بوتين في القرم.
الغد الأردنية