يشهد الشرق الأوسط راهناً بعضاً من أعظم حالات الجيشان السياسي منذ خلق نظام الدولة العربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وفي عموم المنطقة، يجري اقتلاع أنظمة ويتم تحدي السلطة. وفي بلد بعد الآخر، نزل الناس إلى الشوارع بعشرات الآلاف للمطالبة بالوظائف والخبز والاحترام، وبوضع حد للفساد ولوحشية الشرطة، وبأن تكون لهم كلمة أكبر في كيفية حكمهم. وفي العديد من البلدان العربية، نزعت الثقة في القومية العربية العلمانية، بينما أطل الإسلام السياسي برأسه مجدداً في واجهة المشهد السياسي.
وفي رد فعله على هذه التطورات، يميل الاتحاد الأوروبي إلى ترك زمام المبادرة للولايات المتحدة. وكانت هناك، بالطبع، بعض الاستثناءات. فقد لعبت فرنسا مثلاً دوراً بارزاً في ترؤس التدخل الدولي في ليبيا، والأكثر حداثة في مالي. لكن الاتحاد الأوروبي ترك المبادرة للولايات المتحدة بالإجمال في التعامل مع المشاكل الرئيسية للمنطقة: مثل الصراع العربي الإسرائيلي؛ والصراع مع إيران حول برنامجها النووي؛ أو الحرب الأهلية التي تنزع الاستقرار بقدر كبير في سورية.
ومع ذلك، تنامت المشاكل بسبب علاقات أميركا الوثيقة مع إسرائيل. ولعدة أعوام الآن، استطاع الذيل الإسرائيلي جر الكلب الأميركي في الشرق الأوسط، وتبعتها أوروبا بخنوع. ولا يشي ذلك بشيء جيد بالنسبة لسمعة العديد من البلدان الأوروبية، وبريطانيا على وجه الخصوص. وفي المناخ المتفجر الذي خلقته الثورات العربية في العامين الماضيين، من المؤكد أن الوقت قد حان لكي تستعيد أوروبا والاتحاد الأوروبي حريتهما الفكرية والعملية في التعامل مع الشرق الأوسط.
يظل الصراع العربي الإسرائيلي الذي يختمر طوال الخمسة والستين عاماً الماضية، عامل عدم استقرار كبير. وقد أصبحنا اليوم نرى حل الدولتين في حالة احتضار، إن لم يكن قد لفظ أنفاسه الأخيرة فعلاً. ويجب بالتأكيد بذل محاولة آخر دقيقة من أجل إعادته للحياة، وإلا فإن التداعيات ستكون وخيمة جداً على الشرق أوسطية وعلى المصالح الأوروبية في هذه المنطقة. وثمة مسؤولية تاريخية تضطلع بها بريطانيا فيما يتعلق بالحالة المأساوية للأمور. ولذلك، وبدلاً من التزامها الصمت، ينبغي على بريطانيا أن تحدث ضجيجاً كبيراً له جلبة فيما يتعلق بالقمع الوحشي الذي يعاني منه الفلسطينيون تحت الاحتلال في الضفة الغربية وتحت الحصار في غزة. ومن المؤكد أن الوقت قد حان لأن تضغط المملكة المتحدة والدول الأوروبية الحليفة من أجل إقامة الدولة الفلسطينية عند هذه الساعة الحادية عشرة، حتى لو انطوى ذلك على توجيه تهديد بفرض عقوبات على إسرائيل. ويستطيع الاتحاد الأوروبي، باعتباره شريكاً تجارياً رئيسياً لإسرائيل، أن يمارس ضغطاً كبيراً إذا ما استطاع استجماع الشجاعة والإرادة السياسية لفعل ذلك.
لا شك أن نهج إسرائيل الراهن يعد انتحارياً في نهاية المطاف. فهي بلد صغير يعول على المساعدات الأميركية السخية وعلى الحماية الأميركية أيضاً. لكن بقاءها على المدى الطويل يجب أن يعتمد بالتأكيد على استطاعتها التوصل إلى تسوية مع جيرانها العرب والإيرانيين والأتراك. وسيمكن التوصل إلى تحقيق ذلك فقط من خلال وقف وعكس اتجاه سرقتها للأرض الفلسطينية، والسماح بقيام دولة فلسطينية صغيرة إلى جانبها والعيش معها في سلام وأمن وازدهار. وستكون مكافأة إسرائيل عن ذلك قيام علاقات طبيعية مع كل الدول العربية الاثنتين والعشرين.
لقد ارتكبت بريطانيا خطأ فادحاً قبل عشرة أعوام عندما انضم رئيس الوزراء البريطاني في حينه توني بلير، إلى الأمم المتحدة في غزو العراق. وكانت الحرب مخططة من جانب مجموعة من المحافظين الجدد الذين أدخلوا في إدارة جورج دبليو بوش، وخاصة بول فولفوفيتز ودوغلاس فيث من وزارة الدفاع (البنتاغون)، وديفيد وورمسير من مكتب نائب الرئيس الأميركي من بين العديدين الآخرين. وقد اتسم الفرنسيون والأتراك بالحكمة الكافية ليبتعدوا عن الحرب. وكانت إسرائيل تريد تدمير العراق، لأنها اعتقدت بعد الحرب العراقية الإيرانية أنه قد يشكل خطراً عليها في الجبهة الشرقية ذات يوم. وهكذا، تقسّم العراق وقتل مئات الآلاف من مواطنيه، وشرد منهم الملايين أو أجبروا على الخروج إلى المنفى. وما يزال أمام العراق طريق طويل ليقطعه حتى يستعيد عافيته.
وثمة تداع غير منظور للحرب، يتمثل في إبعاد السنة عن السلطة وإحلال الطائفة الشيعية التي تشكل الأغلبية محلهم. وقد عنى ذلك أن لا يعود العراق قادراً على لعب دوره التقليدي كمواز سني للشيعية الإيرانية في منطقة الخليج. وتسبب هذا التطور في زيادة توجس الدول الخليجية الأصغر من احتمال السقوط تحت الهيمنة الإيرانية، كما أقلق هذا التحول في ميزان القوة الإقليمي المملكة العربية السعودية، الدولة العربية الرئيسية في المنطقة.
ولأنها استطاعت إقناع الولايات المتحدة بتدمير العراق، حولت إسرائيل اهتمامها بعد ذلك لينصب على إيران، المتحدي الآخر لتفوقها الإقليمي. ولذلك شنت إسرائيل حملة بلا كلل أو ملل لحمل الولايات المتحدة على الانضمام إليها في مهاجمة المرافق النووية الإيرانية، أو الأفضل من ذلك، أن تضطلع الولايات المتحدة بالمهمة وحدها. ولا تبدي إسرائيل تردداً في تصوير إيران على أنها دولة إرهابية، وأن برنامجها النووي يشكل تهديداً للبشرية جمعاء.
في فترة رئاسته الأولى، كان اوباما قادراً على مقاومة الضغط الإسرائيلي المكثف لشن حرب ضد إيران، لكنه استطاع ذلك فقط عبر فرض عقوبات معيقة على إيران وإجبار الأوروبيين على أن يحذوا حذو الولايات المتحدة. وأفضت العقوبات إلى خفض أكثر من نصف الصادرات النفطية الإيرانية، ودمرت عملتها وقطعتها عن الصيرفة الدولية، ووضعت صعوبات كبرى أمام شعبها.
والآن هناك أخيراً بعض الدلائل الخجولة على انتهاج طريقة أكثر تعقلاً تجاه الجمهورية الإسلامية. وتبدو المباحثات الأخيرة في كازاخستان بين إيران والأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي بالإضافة إلى ألمانيا قد حققت بعض النجاح المحدود، ومن المقرر أن تتبع قريباً بالمزيد من المفاوضات. ولعل الحل الواضح بالنسبة لإيران يكمن في السماح لها بتخصيب اليورانيوم بمستوى منخفض لأغراض سلمية بموجب ضمانات صارمة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في مقابل رفع العقوبات عنها.
لكن إسرائيل تسعى إلى نسف أي تسوية. وهي تريد إقفال الصناعة النووية الإيرانية جملة وتفصيلاً. وهي لا تريد لأي من جيرانها، القريبين والبعيدين على حد سواء، حيازة حتى إمكانية امتلاك قوة ردع متواضعة. وكما نعرف جميعاً، فإن إسرائيل هي قوة نووية رئيسية تتوافر على ترسانة كبيرة تتجاوز أكثر من 100 سلاح نووي والعديد من أجهزة الإطلاق بعيدة المدى، بالإضافة إلى قوة ضاربة ثانية في شكل غواصات مسلحة نووياً. وهي تريد إطلاق يدها في ضرب جيرانها حسب هواها، وبحيث لا تتعرض لضربة انتقامية.
وفي سورية، يبدو أن الولايات المتحدة وبعض حلفائها قد باتوا على وشك تزويد مقاتلي المعارضة بالأسلحة والمعدات، ومن بين أكثرهم فعالية المجموعات الإسلامية الراديكالية، مثل جبهة النصرة المرتبطة مع القاعدة. وهكذا، تعيش الولايات المتحدة وحلفاؤها في وضع متناقض يقوم على قتال القاعدة في شتى أنحاء العالم، لكنه يسلحها في سورية. وسوف تندم الولايات المتحدة وحلفها على ذلك من دون شك. صحيح أنه يجب وضع حد للصراع السوري بالسرعة الممكنة، لكن الطريقة لفعل ذلك لا تكمن في تسليح جانب ضد جانب، وإنما في حرمان الجانبين من التسليح. ويجب فرض وقف لإطلاق النار من جانب الولايات المتحدة وروسيا، مدعوم من جانب كل الأطراف الخارجية الأخرى التي ما تفتأ تغذي أوار الحرب. هذا ما تتوق له الغالبية العظمى من أقارب الشهداء السوريين.
*كاتب بريطاني بارز عن الشرق الأوسط. أحدث كتاب له هو “النضال من أجل الاستقلال العربي: رياض الصلح وصانعو الشرق الأوسط الحديث”،(مطبعة جامعة كمبردج).
(ميدل إيست أونلاين) -ترجمة: عبد الرحمن الحسيني الغد الأردنية .*نشرت هذه القراءة تحت عنوان:
Can Europe Help the Middle East