في العام 2003، عندما كان بنيامين نتنياهو وزيراً للمالية، كشف عن اقتراح جريء لبناء خط سكة حديدية فائق السرعة، والذي يربط مدينة إيلات؛ الميناء الإسرائيلي على البحر الأحمر جنوباً، بأشدود؛ أضخم ميناء إسرائيلي على البحر الأبيض المتوسط. وقال إن خط سكة الحديد سيشكل بديلاً لقناة السويس، وسيمكّن إسرائيل من رفع سوية منزلتها كأكثر بلد مستقر في الشرق الأوسط ومضيف للسلع المشحونة من الشرق الأقصى إلى أوروبا. ومع ذلك، وصلت تلك الخطة لإزاحة طرق التجارة القديمة في المنطقة إلى لا شيء في نهاية المطاف. ففي ذلك الوقت، كان الاقتصاد الإسرائيلي يتراجع بفعل الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وكانت هناك شهية ضئيلة لإنشاء مشاريع بنية اقتصادية كبرى. وقد استقال نتنياهو من الحكومة بسبب انسحاب آرييل شارون من قطاع غزة، وذهبت معه رؤية إنشاء خط سكة حديد فائق السرعة.
الآن، بعد عقد تقريباً، ومع وجود مصر غير مستقرة في الجوار، ومع ازدياد حجم التجارة مع آسيا، أعاد نتنياهو إحياء فكرة خط السكة الحديد بين “الأحمر والمتوسط”. وفي أيار (مايو) من العام 2012، أقرت حكومة نتنياهو إنشاء المشروع بالإجماع. وفي شهر تموز (يوليو)، وقع يسرائيل كاتز، وزير النقل الإسرائيلي، مذكرة تفاهم مع نظيره الصيني، معلناً انخراط الصين في إنشاء خط السكة الحديد. وفي وقت سابق من هذا العام، صوتت الحكومة لصالح الإسراع في متابعة المشروع، ورفضت التماساً ضد المشروع قدمه وزير حماية البيئية. وتقدر وزارة النقل أن يستغرق الإنشاء خمسة أعوام. وفي الأثناء، تبرز الجسارة التي تتبع من خلالها إدارة نتنياهو مشروع السكة الحديد، حجم الأولوية التي توليها لتطوير روابط التجارة مع شرق آسيا، حتى مع إبداء منتقدي الخطة قلقاً من أن إسرائيل أصبحت معتمدة كثيراً جداً على الصين. ووفق وزارة الاقتصاد في إسرائيل، فإن العام 2014 سيمثل السنة الأولى التي سيفوق فيها حجم الاتجار مع آسيا نظيره مع الولايات المتحدة. وفي الأثناء، يزيد نمو الصادرات الإسرائيلية إلى آسيا بمعدل ثلاث مرات على معدله مع الولايات المتحدة وأوروبا. وبينما يظل أكبر شريك تجاري لإسرائيل هو الاتحاد الأوروبي، فقد دفع التوتر بين الحكومات الأوروبية وإسرائيل بوزير المالية الإسرائيلي، نفتالي بينيت، بالإضافة إلى وزراء بارزين آخرين، إلى المنافحة بسرعة عن برنامج اقتصادي مؤهل آسيوياً.
يتمثل العائق الأساسي أمام “محور آسيا” في أن البنية التحتية في إسرائيل مؤهلة وفق المعايير الغربية. فهي مصممة لتناسب التجارة عبر البحر الأبيض المتوسط وليس البحر الأحمر. وبالرغم من أن مزايا كبيرة جمة ستترتب على شحن السلع من آسيا إلى إيلات، فإن البنية التحتية غير المتطورة في البحر الأحمر، تعني أن الشحن بين إسرائيل وآسيا، باستثناء القليل من المنتجات الأساسية، سيظل يمر عبر الموانئ الإسرائيلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط.
في مقابلة صحفية، أقر أوريل لين من اتحاد غرف التجارة الإسرائيلية، والذي يعد داعماً قوياً للخطة، بأن نتنياهو في حديثه عن مشروع خط السكة “قد مجّده قليلاً”. ووفق لين، فإن نتنياهو يفعل ذلك لأنه “يرى فيه أكثر من خدمة استراتيجية لأوروبا، بحيث ستقدر أوروبا صداقتها مع إسرائيل بقدر أكبر”. ورغم هذه المبالغات، قال لين إنه سيكون لتطوير خط السكة “تأثير مهم جداً على اقتصاد إسرائيل”، لأنه سيسرع التجارة بين أوروبا وإسرائيل، وسيقدم فائدة متواضعة ولكنها متنامية لشركاء إسرائيل التجاريين -الشرق آسيويين والأوروبيين على حد سواء.
ثمة سؤال ملح يثار في الصحافة الإسرائيلية والدولية، والذي يتعلق بالكيفية التي سيكون عليها رد فعل الحكومة المصرية لصعود إسرائيل المحتمل كمنافس تجاري. ومن المعروف أن إجمالي الناتج المحلي المصري يعتمد على رسوم قناة السويس. وتتفاوت التقارير حتى الآن حول ما إذا كان المسؤولون المصريون قلقين من أن يقوم خط السكة بتحويل التجارة بعيداً عن مصر. وقد لعب وزراء الحكومة الإسرائيلية لعبة محكمة من خلال إبراز المزايا التي ستجنيها البلدان الأوروبية والآسيوية من خط البحر الأحمر- المتوسط، في وقت شددوا فيه على القول إن المشروع لا يهدف إلى التنافس مع قناة السويس. ومع ذلك، وعلى افتراض أن الأرقام التي وفرها محللون مستقلون صحيحة، فإن هناك مسوغاً ضئيلاً للاعتقاد بأن الحركة في قناة السويس أو العلاقات بين مصر وإسرائيل ستتأثر كثيراً.
بينما يرجح أن تظل العلاقات مع مصر بلا تغيير، سيمثل خط السكة مشروع البنية التحتية الأكبر في تاريخ العلاقات الإسرائيلية الصينية. وبالنسبة للصين، يمثل مشروع السكة طريقاً مكملاً صغيراً لسلعها المتجهة إلى أوروبا، والذي سيجعل التجارة أكثر فعالية بين إسرائيل والصين. ولأن خط الأحمر- المتوسط سينوع طرق تجارة الصين، فإن من الممكن النظر إليه من الزاوية نفسها مثل جسر الأرض الأوروبي-الآسيوي الذي أكملته الصين مؤخراً، وهو خط سكة حديد ينقل السلع من وسط الصين مباشرة إلى ألمانيا، وهو يماثل تحديث الصين الأخير لميناء “بيريه” في أثينا، أو أي من مشاريع البنية التحتية التي تطورها الصين في شرق أفريقيا وغيرها. وخلال اجتماع بكين مع وزير النقل كاتز، أشار مسؤولو الحكومة الصينية إلى أن تمويل خط السكة الحديدية قد يأتي من بنك التنمية الصناعية المملوك للدولة في الصين، والذي يمول مشاريع البنية التحتية في شرق أفريقيا والأماكن الأخرى.
بينما تستخدم حكومة نتنياهو احتمال العلاقة المحسنة مع الصين كمسوغ لمتابعة بناء خط السكة الحديد، أعرب المشككون في الصين في داخل إسرائيل عن قلقهم من أن ذلك سيكون سيئاً لاقتصاد إسرائيل وأمنها على حد سواء. وفي العام 2012، اشتكت شيلي ياشيموفيتش، التي كانت حينذاك زعيمة المعارضة في إسرائيل، لصحيفة هآرتس الإسرائيلية من فكرة التعويل على شركة صينية لبناء خط السكة. وقالت إنها عارضت “خطة كاتز لوضع مشروع السكة الحديد إلى ايلات في أيدي الصينيين، بينما يتم تجاوز عمليات المناقصة المناسبة واستيراد آلاف العمال الصينيين”. وتابعت بالقول: “لا شك في أن الصينيين سيكونون ممتنين بعمق ليسرائيل كاتز، لكن أول واجب للحكومة يجب أن يكون تجاه مواطنيها”. وفي شهر أيار (مايو) الماضي، أعربت ياشيموفيتش عن قلقها من أن إسرائيل “تبيع نفسها للصين، حيث هناك المزيد من الشركات الصينية التي تشتري شركات إسرائيلية”.
تردد صدى قلق ياشيموفيتش عند مدير الموساد السابق، أفرايم هاليفي. وقد نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عنه معارضته الشديدة لانخراط الصين في مشروع السكة الحديدية. وقال هاليفي: “تقوم الصين بترويج مشاريع رئيسية من أجل تأسيس نقاط نفوذ لها عبر البحر وعبر الموانئ، وذلك قد يساعد أعداء إسرائيل من بين أمور أخرى لزيادة قدراتهم ضد إسرائيل إلى حد كبير”. كما حذر هاليفي من أن انخراط الصين في مشروع السكة الحديدية قد يضر بالعلاقات الإسرائيلية الأميركية. وكتب: “أن تحتفظ الصين بطريق السكة الذي يمر بإسرائيل وتتملكه وتشغله، فإن ذلك شيء لن تتفهمه الولايات المتحدة”. ورد وزير النقل على هذه الاتهامات بنفي أن تكون الولايات المتحدة منزعجة من المشروع.
من جهته، لم يتفق عوديد إيران مع تحليل هاليفي بأن نفوذ الصين على الخط سيكون معيقا للأمن الإسرائيلي، وقال لي بهذا الخصوص: “إن تفسيري هو أن الصينيين يتطلعون إلى إقامة مشاريع اقتصادية ولا يتطلعون إلى مناورات سياسية. وأعتقد بأن الحكومة في إسرائيل قادرة على وقف الصينيين عن الاستفادة من مشروع بنية تحتية صرف”.
ثمة سؤال جيو-استراتيجي نهائي سيطفو على السطح في هذا الخصوص، هو ما إذا كان الأردن سيشارك في هذا المشروع أم لا. فميناء العقبة الأردني الذي يقع مباشرة على البحر الأحمر مقابل إيلات بإمكانه الوصول إلى أعالي المياه أكثر من إيلات. وقد شهد الميناء مؤخراً عمليات تجديد. وذكرت صحيفة “هآرتس” عن تطوير الشراكة بين ميناءي العقبة وإيلات التي كانت قد بدأت في شهر أيار (مايو)، حيث وافقت سلطات ميناء العقبة على قبول بضاعة موجهة لإسرائيل من صنع الإمارات العربية المتحدة التي لا تتاجر مع إسرائيل.
إذا ما تم تمديد خط السكة الحديدية إلى العقبة التي تتوافر على ميناء أكبر وأكثر تطوراً من إيلات، فإن كمية البضاعة التي ستنقل بواسطة الخط الحديدي من البحر الأحمر إلى المتوسط قد تزيد بشكل دراماتيكي. وتوصف العلاقات بين الحكومتين في إسرائيل والأردن بأنها جيدة، كما أن نتنياهو كان قد تحدث في أيار (مايو) عن احتمال انخراط الأردن في المشروع.
يعرض تقدم مشروع خط السكة إلى الأمام صورة للطرق المعقدة التي ينطوي عليها انخراط الصين في المنطقة، والذي سيحول تجارة إسرائيل والبنية التحتية والعلاقات الإقليمية، بالإضافة إلى احتوائه على تحديات أمنية جديدة ونقاشات محلية. لكن الواضح هو أنه في الوقت الذي تؤهل إسرائيل فيه بنيتها التحتية لتناسب التجارة مع آسيا الصاعدة، فإن مشهد البلد -السياسي والاقتصادي والفعلي- سيتحول أيضاً.
الغد الأردنية